كان بهي الطلعة وقور المظهر، له رؤية استنارية مؤازَرة بالنعمة، جعلت لسانه عطرًا خصيبًا، قلمه ذهبيًا متألقًا، وعقله فذًا مستنيرًا، وقلبه قلب جبار بأس، متوقد الذهن؛ حاذق المعرفة؛ وثّاب الحركة والنشاط، أضناه الجهد والتعب، وأرهقته الضيقات، لكنه انتصر بالصوم والتقوى. كرّس حياته لرسالة كونية تحمل الإضطهاد والنفي من أجلها، لكنه لم يضطهد أحدًا قط.. يمحو الذنب بالتعليم، شارحًا الإيمان بالمحبة والإقناع. له رؤيته فى فحص اللاهوت العقيدي، يستجلي الصحيح شاهدًا بحياته الطاهرة على إيمانه الطاهر.
لم يستخدم القوة والتجريح، متفوقًا فى الدفاع عن عقيدة وحدة الجوهر، حتى أنه أُعتبرحامي الإيمان. ازدحمت كتاباته بالآيات والأسانيد الكتابية، لذا تمتع بإحترام وتقدير عالٍ في كل الكنيسة الجامعة، محسوبًا من أعظم قديسي العالم.
لم يفقد “القديس أثناسيوس”هدفه ورؤيته وسط العواصف؛ فصار اسمه الخالد لا ينفصل عن العقيدة الجامعة للإيمان بالثالوث.. بصيرته الروحانية، وعمقه اللاهوتى ومهاراته العقلية والحوارية جعلته أهم الشخصيات اللاهوتية فى العصر النيقاوي.
عاش القديس “أثناسيوس الرسولي” حياة النسك، وتتلمذ للقديس العظيم “أنطونيوس الكبير”، وسلك بروحه، وجعل الأديرة فى عهده حصونًا ومراكز لحفظ الإيمان السليم، مشجعًا الحياة الرهبانية في مواعظه ومؤلفاته.
عضد مدرسة الإسكندرية اللاهوتية العريقة ذات الصيت الذائع وعين لها اللاهوتى العلاّمة القديس “ديديموس الضرير”. أفنى حياته في الدفاع عن القيمة الأرثوذكسية وعقيدتها، وبطهارته وإحتماله وصبره على الأشرار؛ تدعمت تعاليمه الأصيلة. وقد جعل نفسه كل شىء لكل أحد، كقيثارة رسولية وكنجم فى السماء.
لُقب “القديس أثناسوس” بالرسولي، وصار وحده ضد العالم؛ عندما أصبح العالم كله ضده، بل وأصبح إصطلاح نيقية، واسم “أثناسيوس” فى التاريخ قيمتين متعادلتين.
أثرَى “القديس أثناسيوس” الكنيسة أكثر من كل ما ورثته من أعمالها فى الماضى، ووضع منطوق قانونها الأرثوذكسي الأساسى، وحُسب من أتقىَ وأجلّ الشخصيات ذات الوقار العظيم فى تاريخ الكنيسة، وقد دُعى ب “أبو الأرثوذكسية”، وب “الرسولى”، وب “المنبر الأعظم” وب “حامى الإيمان”.
تدفق اللاهوت من قلبه؛ متحدياً العقول المربوطة بالمشاحنات والمهاترات وتعاظم أهل البدع؛ لكنه لم يهبط بالحوار إلى منحدر المضادين والحاقدين وأعمالهم التهريجية، محتفظًا بلهيب الغبطة الإلهية الذى (يبيد المنافق بنفخة فمه) (إش ١١ : ٤) سندته نعمة المسيح ونجته بعد مطارادات وفخاخ كثيرة، مجاهدًا حتى لا تتلوث الكنيسة في إيمانها ويُنتهَك قانونها، وبالمعونة الإلهية، وعلى يديه لم تُدَسْ كنيسة الإسكندرية العظيمة تحت أرجل الهراطقة.
جاهد و نُفي بعيدًا عن كنيسته المحبوبة؛ أُضطُهِد وسُجن واُفتُري عليه، وعانى معاناة مريعة من أجل الاعتراف الذي تحدد بواسطة أمانة آباء نيقية ضد صراع الباطل ومكايد الأعداء والأرواح المضلة.
كانت نفس قديسنا العظيم “أثناسيوس” في ظل هذه الظروف الصعبة فى سلام وحفظ إله القوات، لذا لم يكن ذليل النفس أبدًا؛ بل كان قلبه جزلاً راسخًا، معتزًا بآباء الأرثوذكسية. هذا هو القديس “أثناسيوس” العظيم الفائق في قدسه، الذى حاربه العدو طيلة حياته، لكنه هو المغبوط حقًا الذى لن يستعلي عليه أعداؤه؛ لأن رب الكنيسة حافظه؛ وناصر إيمانه، وقد تم فيه المكتوب القائل (صوت يقوم عليك، ومعونة الرب توافيك، تقهر شائنيك).
فملأ العالم من تعاليمه، وسقى الشعب مثل المكتوب فى الكتب. إن أنهار ماء الحياة تجري من بطنه، لأنه تشبّه بهارون، وبرؤساء الآباء في الكهنوت… وعال أرض مصر بصبره سبع وأربعين سنة بمياه الروح الجارية من شفتيه الطوباويتين؛ كمثل التلاميذ الرسل بالعمل والقول.
لقد سأل من المعزي على المذبح المقدس الناطق السمائى، الذى لربنا يسوع المسيح؛ من أجل الأمانة المستقيمة بالثالوث القدوس، وعندما قدّس انصبغ أصبعه من دم الحمل الموضوع في الكأس، فصار طبيبًا مشفيًا وراعيًا ومحاربًا عظيمًا، وشهيدًا بغير سفك دم. إن اسمه عظيم في كل كورة مصر وفي المسكونة كلها، إنه رسالة كونية.