قبلَ كل شيء، علينا أن نقولَ أمرًا مهمّا ، وهو أنّ الخلق (في سفر التكوين)، كُتبت نصوصه على ضوء ” سفر الخروج ” !، لان عبور الشعب العبرانيّ من العبودية إلى أرض الميعاد، كانت الخبرة الآولى له وهي بمثــــــابة ” إنفصالٌ وإنشطار = أي خلق ” ! فالخروج – والخلاص – والحريّة = الخلق. بوسعنا أن نشاهد تشابهًا بين كلمات الخلقة ( تك 1 ) وكلمات الخروج، ذلك أنّ التحرير من مصر هو بمثابة خلقة إسرائيل . وسوف يروي الإسرائيليّون ذلك، باسلوب ملحميّ، يتمّ فيه تضخيم الحدث، مع تصعيد للجانب العجيب . هكذا، يُنظر إلى الله بصفته محرّرا ( يستخدم الليل والنهار البحر )، قبل أن يُعتَرف به خالقــــًا (يضبط القوى الكونية ) .
الحدث والكتاب …
الحدث
تعني عبارة ” خروج ” في الواقع مجموعة أحداث : الإقامة في مصر، ضربات مصر، الهرب منها، المسيرة عبر الصحراء، الإقامة في سيناء، وحتى الدخول إلى أرض الميعاد . وكما تعني الكلمة اليونانيّة (ex – hodos) ” طريق الخروج “، هكذا يدلّ حدث الخروج، بحصر المعنى، على خروج الإسرائيليّين المستَبعدين من مصر، بقيادة موسى . وتُلاحـــَظ في هذه الرواية فجوات كثيرة وتناقضات وتكرارات تجعلُ مفهومنا عن التاريخ عرضة ً لسوء الفهم . هل يمكننا أن نعرف ماذا حدث بالضبط ؟
هناكَ شبه إجماع ٍ تبلورَ فجعل الإقامة في مصر في القرن 13 ق . م، في حوالي نهاية ملك الفرعون رعمسيس الثاني (1290 – 1224) . إلاّ أن هرب اسرائيل (وقد ورد في خروج 12 : 38 وكأننا بازاء ” إحصاء ” ) وشخصيّة موسى، لا نجد لها ذكرًا في الوثائق المصريّة في ذلك العصر .
الكتاب
ينتهي سفر التكوين بمشهد سكنى عشيرة يعقوب في مصر (قصة يوسف) . أما في سفر الخروج، فنرى أنّ ” بني اسرائيل ” ما زالوا في مصر، في أعقاب 430 سنة (خروج 12 : 40) ؛ ولكونهم أصبحوا كثرًا، راح المصريّون يُخضعونهم لاشغال شاقة . وها نحنُ بازاء قصّة تحرّرهم، بقيادة موسى، والتي ستحتلّ المكانة الآولى حتى خاتمة الأسفار الخمسة .
أن نتكلّم عن رواية بخصوص سفر الخروج، فذلك أمر تنقصه الدقّة، طالما أن هناك مجاميع من النصوص غير روائيّة – هي مجموعة القوانين والطقوس – ستقطعُ الرواية : لا سيّما خر 25 – 31 و 35 – 40 . ذلك أن سفر الخروج هو بداية تاريخ اسرائيل في البريّة، ويتواصل في سفر الأحبار والعدد وتثنية الإشتراع وحتى وفاة موسى (تث 34) .
الله المخلّص ( هذا هو الموضوع الرئيسيّ )
الخروج، هو الحدث الأساس الذي عليه يرسو إعلان إيمان إسرائيل : لا تنسَ أنّ الربّ الهك، هو الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية … ” . ونسيانُ هذا الفعل المؤسّس من قبل الإسرائيليّين، هو بمثابة نفيٌ لحقيقة كونهم شعب الله . لذلك سوف يذكر العهد القديم مرارًا بهذا الخروج من مصر ( 124 مرّة )، وسيجد حدث الخروج تأوينـــــًا مستمرّا . وحين يجد الشعب نفسه مهدّدا في وجوده بالذات (ابان الجلاء إلى بابل ) ، يذّكر للحال بعمل الله في مصر . فالله الذي حرّر شعبه، سوف ينقذه ايضا . وهكذا يبدو الخلاص مستمرّا . (واللاهوت العقائديّ يشرحُ معنى الخلق بأنه خلقٌ دائم ومستمر، وليس أمرًا من فعل الماضي ! ) . هوّذا النبيّ اشعيا يتحدث عن ” خروج جديد ” (أش 40 : 55) . أما الإحتفال بالفصح، بصفته ” ذكرى “، فهو يعلن الوقت الحاضر الذي يتمّ فيه خلاص الله . حين يحتفلُ الشعب بالفصح، فهو إنــــّما يؤكد على ” آنيّة التحرير ” . وما ذلك إلاّ لأن الخروج هو نموذج كلّ تحرير ( ألمْ يكن العبيد السود في الولايات المتحدة ينشدونَ : Let me people go! (دعْ شعبي يخرج ! ).
إن رواية خروج 14 الرائعة، يجب أن نفهمها بمثابــــة ” كرازة ، وليس بكونها رواية قتال . وفي الواقع، لا نرى إسرائيل، هنا، يتقاتل . والعقبة الأساسيّة بوجه تحرير إسرائيل، لا تكمنُ في المصريّين، وإنما في عدم إيمان إسرائيل . ذلك أن الأعداء الذين يخلّص الله شعب إسرائيل منهم، ليسوا هذا الشعب أو ذاك ( مصر أو أيّ بلد آخر)، وإنما الظالـــــمون في كلّ الأزمنة، من جهة، وقلّة إيمان إسرائيل بالذات، من جهة أخرى .
الآن، لنطرح موضوع الخروج كسؤال: الكتاب المقدّس والتاريخ !
أوّل سؤال ٍ يُطرح على مثل هذه الروايات ليس هو : ” ماذا جرى ؟ “، وإنّما ماذا تريدُ هذه الرواية أن تقولَ لنا ؟ . فلسنا بصدد التاريخ – عمل المؤرخين بالمعنى الحصريّ – وإنما بصدد تاريخ مقدّس . (فالكتاب المقدّس يروي لنا تاريخا لاهوتيّا مقدّسا وليس التاريخ العلميّ والوثائقيّ من موقع الحدث – فليس لدينا هو ” ناشيونال جيوغرفيك ” ! . فما يهمّ شعب اسرائيل هو أن يقول أوّلا : ” لماذا ” تم الخروج من مصر، وليس ” كيف ” . وهذا يشبه، إلى حدّ ما، روايات الخلقة .
مع ذلك، يبدو السؤالُ عن التاريخ مشروعا : هل بالإمكان الإحاطة بحدث الخروج ؟ هناكَ مؤشّرات ٍ تاريخيّة وجغرافيّة بشأن الخروج، إلا أنها لا تتيحُ لنا معرفة تاريخ الحدث، ولا حتى إسم الفرعون الذي كان في الحكم . وهكذا، ليس لنا سوى الرواية، كما حُكيت، مع تفسيرها . ليس بإمكاننا أن نحكي حدثا من دون أن نفسّره .
هناك تقاليد عديدة، في روايات الخروج، جمع بعضها إلى بعض : تقاليد التورا. ولكل مجموعة طريقتها في رواية هذا الحدث الأساس . هناك، على سبيل المثال، نصوص تعرض الخروج وكأنه ” طرد ” : ” إنّ يدا قويّة تجبره على إطلاقهم ” (6 : 1 ، 11 : 1)، فيما تعرضه نصوصٌ أخرى وكأنه ” هرب ” : ” كما أخبر ملك مصر أنّ الشعب قد هرب ” (14 : 5) . وهناك نصوص تتحدث عن مسيرة من الشمال، على طول ساحل البحر المتوسّط، فيما تفترض نصوصٌ أخرى مسارًا طويلا عبر البحر الأحمر وجبال الجنوب .
ولكن، حتى وإن لم نستطع أن نقبضَ على الأحداث بدقّة، فإنّ الخروج هو، بالنسبة إلى الشعب الإسرائيليّ، الحدث المؤسّس : فهو يدرك جيّدا أنه شعبٌ مخلّص، وسوف يستمرّ في الرجوع إلى هذا الحدث على مدى تاريخه الطويل . بهذا المعنى يصبح الخروج تاريخيّا : إنه مسجّل في كلّ تقاليد إسرائيل . علينا إذن أولا، أن نبحث عن معنى الحدث المرويّ، قبل أن نطرح أسئلة حول الطريقة التي تكوّنت بها الروايات .
المرجع : سلسلة أبحاث كتابية، قراءة في العهد القديم، مجموعة من ذوي الإختصاص في الكتاب المقدّس.