كيف يمكن أن يتوافق الدين مع العصر؟ أو مع العلم والتقدّم؟ كيف يمكن المتديّنين أن يصبحوا جزءًا من العالم المعاصر من دون أن يتخلّوا عن دينهم؟ أسئلة تعبّر عن أزمة في الفكر الدينيّ المعاصر، أزمة موروثة منذ قرون غابرة.
لا يكفي أن يجيب بعضهم من الغيارى بإنّ الدين صالح لكلّ زمان ومكان، وإنّ كلّ ما يلزم المتديّن قد أعطي مرّة واحدة وإلى الأبد في النصوص التأسيسيّة، وأغلق الباب من بعدها. لأنّ هذا الجواب الجاهز يعني في ما يعنيه أنّ على العصر أن يتكيّف مع الدين، لا الدين مع العصر. ولا يكفي، في هذا المجال أيضًا، استنهاض همم المتديّنين، وإثارة غيرتهم الدينيّة للإغارة على العصرنة والمتعصرنين، وكأنّ العصرنة منافية للدين.
فإذا كان لدى النصّ الدينيّ التأسيسيّ أجوبة على كلّ الأسئلة التي طُرحت إلى اليوم، وعلى كلّ الأسئلة التي سوف تُطرح في المستقبل، فلماذا، إذًا، خوف هؤلاء من العصر؟ إنّ الجواب يكمن في معياريّة هذه النصوص التأسيسيّة. فهل ينبغي أن تؤخذ بحرفيّتها من دون النظر إلى ظروفها التاريخيّة، أم ينبغي الأخذ بروحيّتها ودلالاتها، ثمّ التصرّف بحسب ما يقتضيه العصر؟ هل يجب مثلاً المحافظة على الزيّ الذي كان رائجًا في زمن المؤسّس الموحى إليه بالنصّ الإلهيّ؟ وهل يجب التمثّل بهيئة المؤسّس الخارجيّة أيضًا؟ وإلاّ عُدَّ ذلك خروجًا على المألوف وعلى الأمر الإلهيّ. وهل الأمر الإلهيّ مقيّد بزمن محدّد تنبغي العودة إليه والمكوث فيه إلى الأبد؟ وكيف يكون الله أزليًّا أبديًّا، وبالوقت عينه، أسير زمن اللحظة التأسيسيّة للدين؟
لا بدّ، إذًا، من التّمييز بين مستويين وعدم الخلط بينهما: المستوى الإلهيّ والمستوى البشريّ. كما ينبغي التمييز بين الجوهريّ والعرضيّ، وبين الأزليّ والتاريخيّ. لا يجوز، مثلاً، أن تُجعل عقيدة التوحيد وما دونها في الأهميّة في مرتبة واحدة. فهناك ما هو مسلَّم إلى الإنسان بالإيمان: الله واحد لا شريك له، مثلاً، وهناك ما هو منخرط في الثقافة الدينيّة العامّة، كالعادات والقواعد الاجتماعيّة التي كانت سائدة في زمن معيّن، وما عادت سائدة في زمننا.
لذلك مَن يجعل العرضيّ بمستوى الجوهريّ، يلغي الجوهريّ ويجعله بمستوى العرضيّ. فيسود العرضيّ وثقافته الساذجة والسطحيّة على حساب الجوهريّ. فيغدو، عندئذ، الدين مجموعة فرائض وشرائع منعزلة عن واقع الناس وبعيدة عن روح العصر الذي يعيشون فيه.
إنّ التناقض لنافر عند مَن يقول، بالآن ذاته، بشموليّة اللحظة التأسيسيّة، والعودة إليها بحنين فائق، والدعوة إلى إعادة تشكيل المجتمع الأوّل الذي عاش فيه المؤسّسون بكلّ مظاهره الخارجيّة، من ناحية، والقول بأنّ الدين عنده أجوبة لكلّ زمان ومكان من ناحية أخرى. فالعودة إلى الماضي بدون قراءة حديثة لهذا الماضي لا يمكن أن تساهم في الردّ الشافي على التحدّيات الراهنة التي يواجه بها العصر مجتمعاتنا.
ليست المسألة، إذًا، في جمود النصّ التأسيسيّ بقدر ما هي كامنة في ما يمكن تسميته تأبيد اللحظة التأسيسيّة، وبالتالي تأبيد قراءتنا أو فهمنا للنصّ التأسيسيّ، أي في جعل اللحظة التأسيسيّة وقراءتنا للنصّ أبديّين. فالنصّ قابل للقراءات الجديدة، كونه “حمّال أوجه”. أمّا تأبيد تفسير معيّن للنصّ فيجعله بلا فاعليّة آنيّة، ومن دون أيّ تأثير في الزمن الجاري، وذلك لمجرّد رفع ما هو بشريّ إلى المستوى الأبديّ. وهنا تبرز المفارقة، إذ نستطيع القول إن تأبيد فهمنا للنصّ سيؤدّي إلى إبادة النصّ من الحضور الفعليّ في الزمن. وبدلاً من أن ينتج من التأبيد الحضور الدائم في كلّ زمان ومكان، ينتج الخروج الدائم عنهما.
المشكلة الحقيقيّة تبقى في الذهنيّة التي أسرت النصّ في قراءة واحدة فأُسرت هي بدورها في قراءتها الذاتيّة. أن نحرّر النصّ ممّن أسروه وأسرونا معه هو السبيل إلى حضورنا الفاعل في عالمنا المعاصر.