“عملياً وتقنياً”، عندما حرم البابا فرنسيس المافيا علنًا قبل نحو 3 اشهر، “حرم ايضا المافيا اينما وُجدت”، حتى في لبنان. “الندرانغيتا (المافيا) عبادة للشر واحتقار للخير العام، وينبغي محاربة هذا الشر وابعاده… من يتبعون في حياتهم طريق الشر هذا، كالمافيا، ليسوا في شركة مع الله: انهم محرومون”، قال خلال زيارته لابرشية “كاسانو اليونيو” في “كالابريا” في جنوب ايطاليا (21 حزيران 2014)، معقل “الندرانغيتا” نفسها.
انها الحرب ما بين الكنيسة والمافيا الايطالية. اقل ما يمكن قوله ان “المحرومين” واصدقاءهم غضبوا من البابا. وبتحدٍ علني له (2 تموز 2014)، أُخرِج زياح للسيدة العذراء في بلدة “اوبيدو مامرتينا” الكالابرية عن طريقه، ليعرّج، قصداً، على منزل زعيم المافيا المحكوم جيوسيبي مازاغاتي، حيث انحنى امامه حملة تمثال العذراء احتراماً. وعلى الفور، غادر الشرطيون المواكبون احتجاجاً، بعكس “الكهنة الذين لم يجدوا الجرأة ليحذوا حذوهم”!
كالصاعقة، كان الوقع. وزير الداخلية انجيلينو الفانو قال ان ما حصل “مثير للاشمئزاز”. المدعي العام نيكولا غراتيري اعتبر انه “تحد للحرم البابوي”. مطران المنطقة فرنشيسكو ميليتو اعلن اتخاذ “تدابير حازمة” بحق “مستغلي الزياح”. رئيس مجلس اساقفة ايطاليا نونزيو غالانتينو اكد ان “العذراء لا تنحني للاشرار، ومن جعلوها تنحني، اجبروها على امر ما كانت لتقوم به ابدا”.
وبعد “الصدمة”، فُتِح تحقيق، ومنعت ابرشية اوبيدو كل التطوافات، وبقيت المافيا تغلي. في 6 تموز، قاطع 200 سجين من المافيا قداساً برئاسة اسقف تيرمولي-لارينو في سجن لارينو. وفي اعلان مفاجىء، كشف الكاهن ماركو كولونا لصحيفة “لا ريبوبليكا” انه يواصل مناولة المافيوزيين في السجن، رغم الحرم. “لا استطيع تجنب الامر”.
كان جلياً لخبراء ان حرم البابا يستوقف المافيا بقوة، وفاعليته تتبيّن من ردود رجالها، “ولا بد من انه قد يضعف مكانتها على المستوى الاجتماعي”. ما امتداد هذا الحرم؟ وهل يطال المافيا في لبنان؟ يجيب متروبوليت صيدا ودير القمر للروم الكاثوليك المطران ايلي حداد: “كلام البابا على المافيا خاص بمنطقة معينة في ايطاليا. ويقول ان الانتماء الى تلك المافيا تحديداً يجعل اعضاءها محرومين. عملياً وتقنياً، كلمة البابا تعني ان كل انسان ينتمي الى مافيا، اينما وجدت، يُحرَم. كلامه هذا جاء في عظة. وكأساقفة، يجب ان نتلقاه كتابياً، واذا لم يصل الينا في شكل قرار، فهذا يعني ان كلامه من باب الاحتراز التعليمي”.
في المعنى، الحِرْمُ من فعل حَرَم، اي مَنَع. وهو “عقابٌ كنسي يُمنَع بموجبه من شركة المؤمنين”. لائحة الجرائم الموجبة للحرم طويلة، وتحددها قوانين الكنائس الشرقية بوضوح: “من ينكر اي حقيقة يجب الايمان بها استنادا الى الوحي الالهي او العقيدة الكاثوليكية او يضعها موضع الشك او يرفض رفضا شاملا الايمان المسيحي ولا يرتد بعد تنبيهه. كل من يدافع عن تعليم حكم عليه لضلاله الحبر الروماني او جماعة الاساقفة ولا يرتد بعد تنبيهه. من يرفض الخضوع للسلطة العليا في الكنيسة او يرفض الشركة مع المؤمنين الخاضعين لها ولا يعود الى الطاعة بعد تنبيهه”.
وفي اللائحة ايضا، “من يهمل عمدا في الليتورجيا الالهية والتسابيح الالهية ذكر الرئيس الكنسي. من يرمي القربان المقدس او يأخذه او يحتفظ به بهدف انتهاك القدسيات. من يتظاهر بالاحتفال بالليتورجيا الالهية او الاسرار الاخرى. من يلجأ الى العنف الجسدي على الاسقف او يعتدي عليه باساءة اخرى جسيمة. من يرتكب جريمة قتل او اجهاض مكتمل… المعرّف الذي يفشي مباشرة سر الاعتراف”… الى امثلة عدة غيرها (القوانين 1436-1467).
في العقوبات، هناك نوعان من الحرم: الاصغر، ويُحرم بموجبه المعاقَب من “تناول القربان المقدس، ويمكن منعه عن المشاركة في الليتورجيا، وحتى عن دخول الكنيسة اثناء الاحتفال برتبة دينية عامة” (القانون 1431). والحرم الاكبر، وبموجبه يمنع المُعاقَب، اضافة الى كل ما ورد في القانون 1431، “من تقبل الاسرار الاخرى وخدمة الاسرار واشباه الاسرار وممارسة اي منصب او خدمة او وظيفة… ويحظر عليه المشاركة في الليتورجيا وبقية رتب العبادة العامة…”(1434).
ويشرح حداد ان “قرار الحرم يصدره عادة مطران الابرشية. وبالطبع للبابا والبطاركة الحق في ذلك ايضا”. وفي اتخاذ القرار، ثمة طريقان: “الاولى ادراية، ويتخذ بها المطران القرار وحده، بعد تحقيق سريع معزز بوثائق اصيلة، كشريط فيديو او غيره. والاخرى تحقيق معمق يوجب المطران بان يفتح محكمة ويكلف كاهنا التحقيق. وفي ضوئه، يتخذ القرار”.
الحرم لا يُرفَع الا “بانتهاء المدة التي حُدِّدت له، واذا كان مربوطا بقرار، فيجب ان يصدر قرار آخر بهذا الخصوص. عادة، يُلقَى الحرم “حتى اشعار آخر”، ويصدر قرار آخر برفعه. والسلطة التي تلقيه هي التي ترفعه”، يشرح حداد. في الاصول الكنسية، يحقّ للمعاقب بالاستئناف “امام البابا، اذا كان قرار المطران قضائيا، وامام البطريرك اذا كان اداريا. ويرجع الى كل منهما تثبيت الحرم او رفعه”.
في الاسس المُستَند اليها لرفع الحرم، يجب “انتهاء حالة الفضيحة التي حصلت، او انتهاء فترة التوبة المفروضة على المعاقب”. ويتدارك حداد: “يجب دائما الاخذ في الاعتبار انتهاء الفضيحة والتوبة. واذا بقي احد هذين العنصرين عالقا، فلا يرفع الحرم”.
وفقا لاطلاعه، تبقى قرارت الحرم في لبنان “قليلة جدا”. احدى الحالات التي استوجبت حرما في ابرشيته تتعلق “بكاهن تزوج”. “ان يتزوج كاهن، على سبيل المثال، مدنيا او اسلاميا، يضطرنا الى حرمه. انها من اكثر الحالات التي نواجهها مع كهنة يتزوجون خارج الكنيسة الكاثوليكية، او بما يخالف نذرهم البتولية…”.
في الفاعلية، يرسم حداد وجهين للحرم، الاول دوائي-علاجي، وتكون نتيجته بقاء المعاقب في الكنيسة وتوبته. اما اذا بقي خارج الكنيسة ولم يبدِ اي اهتمام بالتوبة، فيكون الحرم بمثابة اقصاء له، عقاب”.
قبل نحو عام، اعترض مكتب التحقيقات في جرائم المافيا مكالمة من السجن (2013). “شيوتي يمكن ايضا ان نقتله، ابن العاهرة… لنقم بذلك بسرعة”. المتكلم كان السجين سالفاتور رينا، زعيم المافيا الصقلية “كوسا نوسترا”. و”ابن العاهرة” ليس سوى الاب دون لويجي شيوتي الناشط ضد المافيا. “هذا التهديد ليس سوى دليل الى ان عملنا يخمش، يربح ارضا…”، يقول. والحرم البابوي ليس اقل شأنا، “وسيصعب على المافيا تخطيه”، في رأي خبراء.