“طوبى للساعين إلى السلام لأنّهم أبناء الله يُدعَون” (متّى 5، 9). يمكننا القول، وبدون تردّد، أنّ هذه الآية الواردة في الموعظة على الجبل، تشكل جوهر رسالة يسوع المسيح. فالسلام مفهوم لم يتماهَ مع أيّ بشريّ وُجد من آدم إلى اليوم كما تماهى مع يسوع الذي تنظر إليه المسيحيّة إلهًا متجسّدًا، إلهًا تامًّا وإنسانًا تامًّا.
في ظلّ ما يجري في بلادنا من حروب ونزاعات ومجازر حصدت مئات الآلاف من البشر، وشرّدت الملايين عن منازلهم وقراهم، لا بدّ لأتباع يسوع من السعي إلى السلام، إذا شاؤوا الاقتداء بسيّدهم وفاديهم. فلا يجوز لأيّ ظرف أو حدث أن يمنعهم من الالتزام بالعمل في سبيل السلام، ذلك أنّ كلّ انخراط مباشر في الحرب الطائفيّة أو المذهبيّة الدائرة، هنا وثمّة، إنّما هو خيانة فاضحة ليسوع المسيح وللإنجيل ورسالة الكنيسة في العالم. هنا يجدر التذكير بأنّ الكنيسة لا يجوز لها، في الوقت عينه، أن تفقد صوتها النبويّ الصادع بالحقّ من دون خوف من أحد.
يتّفق علماء الكتاب المقدّس على القول بأنّ السلام ليس هو مجرّد انعدام الحرب أو انعدام العنف، بل هو متّصل اتّصالاً وثيقًا بتحقيق العدالة الاجتماعيّة، أي ضروريّات العيش الكريم مثل المأكل والمشرب والأمن والحماية والحرّيّة والعدالة والمساواة، ممّا يجلب للإنسان الطمأنينة وراحة البال. فالعنف لا يقتصر على الحروب والمعارك والعمليات الحربيّة والقتل والتهجير وحسب… بل هو أيضًا عدم ممارسة شريعة المحبّة تجاه المحتاجين إلى معونتنا. فعدم إيواء النازحين أو عدم إطعام الجائع، مثلاً، هو نوع من أنواع العنف.
ليس ثمّة سلامٌ، إذًا، من دون الاهتمام بالفقير والمسكين والأرملة واليتيم والجائع والأسير والنازح والمشرّد والمظلوم… وكلّ مستضعَف ومعذَّب في الأرض. لذلك لا بدّ للساعي إلى السلام من العمل الدؤوب والمستمرّ في سبيل إغاثة المحتاجين، ولا يكتمل برّ أحد من دون هذا الالتزام المباشر بتحقيق العدالة الاجتماعيّة في مجتمعاتنا: “تعلّموا الإحسان واطلبوا العدل. أغيثوا المظلوم وأنصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة” (إشعيا 1، 17).
ينبذ العهد الجديد كلّ شكل من أشكال الحروب والعنف والانتقام. فالمسيح لم يأتِ ليؤسّس دولة ويسنّ شرائع وقوانين، بل أتى بوصيّة واحدة: “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”. فمبدأ المحبّة أقوى وأكثر فاعليّة من مبدأ السيف، لذلك قال يسوع لبطرس ليلة القبض عليه: “ردَّ سيفك إلى غمده، فمَن يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك” (متّى 26، 52). وفي هذا السياق يسعنا الاستشهاد بما كتبه القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية: “لا تجازوا أحدًا شرًّا بشرّ. واجتهدوا أن تعملوا الخير أمام جميع الناس. سالموا جميع الناس إنْ أمكن، على قدر طاقتكم. لا تنتقموا لأنفسكم أيّها الأحبّاء، بل دعوا هذا لغضب الله… لا تدع الشرّ يغلبك، بل اغلب الشرّ بالخير” (12، 17-21).
السلام موقف داخليّ ينبع من قناعة راسخة بالإيمان بالربّ يسوع المخلّص الوحيد. فأوقات الشدّة والاضطهاد والحروب لا يمكنها أن تُفقد المؤمنين سلامهم الروحيّ والتزامهم بتعاليم الربّ. فلسان حالنا ما يقوله القدّيس بولس الرسول: “فمَن يفصلنا عن محبّة المسيح؟ أتفصلنا الشدّة أم الضيق أم الاضطهاد أم الجوع أم العري أم الخطر أم السيف؟ فالكتاب يقول: من أجلك نحن نعاني الموت طوال النهار، ونُحسب كغنم للذبح. ولكنّنا في هذه الشدائد ننتصر كلّ الانتصار بالذي أحبّنا. وأنا على يقين أنّ لا الموت ولا الحياة، ولا الملائكة ولا رؤساء الملائكة، ولا الحاضر ولا المستقبل، ولا قوى السماء، ولا شيء في الخليقة كلّها يقدر أن يفصلنا عن محبّة الله في يسوع المسيح ربّنا” (رومية 8، 35-39).
لا شكّ في أنّ الأمانة ليسوع المسيح تتطلّب من الإنسان أن يبذل الغالي والرخيص، حتّى حياته ليست أغلى من الشهادة الحقّ. إنّنا نحيا زمن المحنة الكبرى، فلا نفقدنّ المسيح تحت أيّ ذريعة أخرى، وإن كانت هذه الذريعة، وفق الفطرة البشريّة، شرعيّة!
الأب جورج مسّوح / ليبانون فايلز