في خطى متتابعة سريعة لاهثة الأنفاس، تبلغ عباراته حدّ التبخّر في فضاء مطير من الأحداث المتلاحقة التي لا تترك للقارئ مجال إستيعابها أو تتبّعها بشكلٍ سويٍّ أو منطقي.
مثال للرجل العربي
البطلُ مثالٌ للرجل العربي الضعيف الذي يخضع لإرادة الأهل والمجتمع والعادات، يعمل كما يختار له والده، ويتزوّج وفقاً لإختياره وإرادته أيضاً، وتمضي به الحياة على إيقاعٍ رتيب وتحمّلٍ أعمى للمسؤوليات دون شكوى أو تفكيرٍ برغباته واحتياجاته وأحلامه.
عندما يتوفى والده، يشعرُ أنّ عبئاً ثقيلاً قد انزاح عن صدره، وأنّه أفنى العمر في سبيل إرضائه مهملاً ذاته، فيجنحُ لحياةٍ أخرى يتحدّى بها ماضيه المستسلم الراكد تحت أكوامٍ من سحب الكبت والتبعية. فيطلق العنان لنزواته، ليشرب الخمر ويلعب القمار ويشتهي نساءً ما كنّ ليخطرن في باله في الماضي، حتى يبلغ به الأمر أن يقيم علاقة مع صديقة زوجته وتدعى فاطمة، وهي محامية مطلّقة شرسة الطبع، تمتلك حقداً دفيناً على الرجال نتيجة تجربةٍ محبطةٍ وقعت فيها، فيسلك معها درب الخطيئة، ولكنه لا يلبث أن يملّ منها، مدركاً أنّ الرغبة تختلف عن الحب، وأنّه لم يردها كحبيبةٍ قط. فيبتعد عنها شاهراً صوت السخط في وجهها، كأنّ جسدها كان مجرّد معبرٍ له للتمرّد والتعالي على المجتمع الذي كان طيّعاً له كلّ عمره.
ثمّ يتّجه تفكيره إلى جارته ناني زوجة جاره عزيز، فتجذبه النظرة المنكسرة الحزينة التي تطلّ من عينيها، وتأسره العذوبة المشرقة التي ترتسم على وجهها في تؤدّة وخجل.
سر الكآبة
يصرُّ على معرفة السرّ الكامن وراء كآبتها وحسرتها، فترسل إليه ناني بمذكراتها التي تتضمّن ماضيها الأليم، فقد عاشت طفولتها قابعة في قبوٍ مظلم من الألم، بين أبٍ طبيبٍ حنون ولكنه حازم، وأمٍّ ساهية عابثة حمقاء، تقيم لاهيةً علاقاتٍ غير شرعية مع رجالٍ آخرين، والأب صامتٌ خانعٌ بسبب حبّه لأولاده. تتطلق شقيقتها الكبرى من زوجها الظالم، وتتزوج من صديقه عزيز الذي تقع في هواه، وتنجب منه طفلة، ولكن المرض والموت يفاجآنها لينتزعا منها بهجتها، فتصرّ العائلة أن تتزوج ناني من زوج أختها المتوفاة، بل تُرغم على هذا رغم اعتراضها وصراخها ونقمتها على المصير الأسود الذي طاردوها به مرغمة.
رغبة الانتحار
تبلغ بها رغبة الموت ذروة الإنتحار ولكنّ زوجها ينقذها في اللحظة الأخيرة، وتستمرّ حياتها معه على منوالِ القسوة واحتقار الذات، إذ ترى أختها الراحلة في كلّ ركنٍ من أركان المنزل، وعندما يقترب منها زوجها عزيز تشعر بسهامٍ حادّة تنخر جسدها. ولكنّها تصبر تحت ضغط العائلة، وتنجب منه طفلاً، وتكتفي بالظلام الذي قبعت في فلكه، مستكينة لحتفها القاتل.
يقع البطل في غرام ناني، ويعرض عليها أن يطلّق زوجته وتطلّق زوجها ليتزوّجا ويهربا سويّاً، ولكنّها ترفض بحزم، لأنّها لا تريد الإساءه لكلِّ من حولهم من أناسٍ لا ذنب لهم، وتفرض عليه نسيانها على أن تظلَّ الذكرى الخالدة لحبّهما حيّة ثائرة في وجدانهما.
نجد البطل يحوم حول هذا الحب الأفلاطوني المستحيل، وتنتهي الرواية بمكالمةٍ هاتفية منه لها، يحثّها فيها أن تستمع لنداء قلبها وتستجيب لدعوته بالحب، وتكون النهاية بكلماتٍ فيها يأس وفيها أمل وفيها استجابة للقدر المجهول الآتي.
تمرّد على الواقع
مصطفى محمود يميل للكتابة الصحافية التي تتعارض مع فنون الكتابة الأدبية، فلا نلمح تضاريسها في خارطة روايته التي تتشعّب بمسالكها، ولا تركّز على مصائر شخوصها، بل تتمرّد على الواقع ثم تتهالك تحت أٌقدامه بوهن، لتطير لعوالم العشق السامية وتحاول أن تتحلّق في دائرة النجوم التي لا تُطال باليد بل تُلمس بالخيال.
هناك تناقضٌ في تصوير المشاعر في رواية «المستحيل»، وتحويرٌ للمنطق وتجسيدٌ للواقع الذي حاول محمود تطعيمه بالخيال، ولكنّه تخاذل عن القيام بهذا لارتطامه بصخرٍ صلبٍ من التشتّت المتباين في تصرّفات البطل وتوجّهاته وانتقاله من حبٍّ سريري إلى حبٍّ خيالي لم يجنِ منه إلّا الحيرة.
نسرين بلوط
الجمهورية