طمأنة للذين يتصوّرون أنني سأحكي عن دور المسيحيين السياسي، أبادر إلى التوضيح بأني أحكي عن مسؤولية الكنيسة والدولة تجاه نزوح المسيحيين من الجبل الى المدينة وفراغ القرى المسيحية، وعن مسؤولية الكنيسة تجاه أبنائها خدام الكلمة.
في بداية حياتهم في لبنان تمركز المسيحيون في الجبال وفي الوسط، وحوّلوا الارض جنائن، وكروم عنب، وتوتاً، وتيناً وزيتوناً، واهراء قمح وحبوب.
بعد الحرب العالمية الاولى هاجر منهم كثيرون الى الاميركتين الشمالية والجنوبية. وبعد الحرب العالمية الثانية، تبعهم قسم آخر الى الاميركتين وإلى كندا واوستراليا وافريقيا. ولم تتوقف الهجرة!
فبعد الحرب اللبنانية، نزف قسم آخر الى اوروبا. ومن بين هؤلاء كان طلاّب علم وطلاّب عمل، فنالوا ما يطلبون، وتمركزوا في البلدان التي نجحوا فيها. والذين لم يهاجروا الى الخارج بدأوا يهجرون قراهم الى المدينة، طلباً للعلم أيضاً وللعمل، وهرباً من شظف العيش في القرية، وطلبا “للرفاه” في المدينة.
فماذا حصل؟ الكنيسة لم تقلق؟ لأن ابناءها ظلوا يمارسون “واجباتهم” في المآتم والاعراس، والدولة لم ترَ نفسها معنية بهذا الموضوع، ففرغت قرى الجبل! وبُنيت في مدن الساحل، كالفطر، وبطريقة عشوائية: المدارس، والجامعات (ما هبّ ودبّ)، والمستشفيات، والمصانع، والمتاجر… وبات اللبناني يأنف شظف العيش في القرية، فحياة المدينة تغريه بسرابها. وبات يخجل ان يكون مزارعا او حدادا او بناء… الخ. فأهله يفخرون به طبيبا او محاميا او مهندسا. وبما ان كل فراغ يستدعي امتلاءً، كما يقال بالفرنسية: Tout vide appelle un plein غرقت السوق اللبنانية بالعمال والحرفيين الاغراب.
نتيجة ذلك، قد تعرفها الدولة. ولكننا لا ننتظر، لئلا نصدم. فالدولة، التي لم تحدد، لا عدد الجامعات ولا عدد الطلاب في كل فرع من فروع الطب والهندسة والمحاماة… وفقا لحاجات البلد، ولا عدد العمال والحرفيين الاغراب، لا ننتظر منها شيئا.
أما الكنيسة، وهي صاحبة رسالة روحية وانسانية، وهي تملك مساحات شاسعة من الاراضي في الجبل، فكان في امكانها (وما زال) أن تتعاون مع المتمولين من ابنائها لتستصلح الاراضي وتبني عليها معامل لتصنيع منتجات الارض، وتشيد فروعاً للجامعات والمستشفيات التابعة لابنائها الذين ينشدون، من خلال مؤسساتهم، ايصال رسالة انجيلية وانسانية. وهكذا يثبت المسيحيون في قراهم. فهذا النزوح يستدعي وقفة وسؤالا، بل سؤالين:
1 – ابناء القرى الذين يضطرون الى النزوح من قراهم، اما لكي يكونوا مع اولادهم الذين يدرسون في المدينة، أو لكي يشتغلوا في المطعم او في الفندق، هل يستطيعون ان يشتروا، أو أن يستأجروا شقة في المدينة؟
2 – والاراضي التي يهجرونها في القرية، من سيشتريها بعد عشرين سنة؟ هل يكفي ان تعظ الكنيسة ابناءها وان تشدد عليهم بالا يبيعوا ارضهم؟
والمستغرب المستهجن في هذا الموضوع، هو رؤية قرى كثيرة تنشط في بناء كنائس كبيرة. فالاسئلة تطرح نفسها: لمن هذه الكنائس؟ وما الدافع والغاية من بنائها؟ أهي لغايات راعوية؟ فهل المؤمنون الشيوخ الذين لا يزالون في قراهم، هم في حاجة الى هذه الكنائس الكبيرة؟ واذا كانت لإثبات الوجود ولتغطية فراغ داخلي، الا يدخل تصحيح هذا الافلاس في صلب عمل الكنيسة – الأم – المعلمة؟
وما يحصل في العمادات، والاعراس، و”القربانة الاولى”، الا يدل الى الغطرسة، والتبجح واهانة الفقراء والمهجرين السوريين الذين يعيشون تحت قبّة الله الزرقاء أو تحت الخيم، الا يستأهل، ويستدعي تصحيح انحرافه لفتة من الكنيسة – الأم – المعلمة، لرد الناس الى البساطة الانجيلية والى الشعور مع الآخرين؟ لا اظن ان موقفا بنويا تعليميا يؤثر بشيء في “النعوات”!… وبما اننا ذكرنا “النعوات”: فنسأل: هل يجوز ان تظل “النعوات” هاجس كل الناس، وأن يظل الاموات يعيّشون الكنيسة؟
أليس من الافضل ان تدرس الكنيسة مشروعا تشرك فيه مؤمنيها في المسؤولية لتأمين معيشة خدام الكلمة؟ تدرس مشروعا تكشف فيه امكاناتها هي (مداخيلها ومصاريفها)، وهكذا تجعل من نفسها أمّاً حقيقية، ومن مؤمنيها أبناء مسؤولين فعلاً عن حياتها؟
ام ان الكنيسة تخشى – لا سمح الله – ان تكشف عن نفسها وان تجعل من مؤمنيها ابناء مسؤولين معها وعنها، وهي مسؤولة عنهم ومعهم؟ فاذا كانت تخشى ذلك، فعندئذ نفهم لماذا لم تحاول أن تعمل شيئاً لوقف هجرة مؤمنيها من قراهم في الجبل؛ وعندئذ نتساءل: هل الرعاية والتدبير يقولان: “لم يكن بالامكان احسن مما كان”؟ فليتدبر كل واحد نفسه كما يشاء، وكما يقدر. أو كما يقال بالفرنسية: A qui mieus mieux”، وحتى متى ستظل الكنيسة ترضى بهذا “التدبير – المعيب – المهين”؟
النهار