في البدء
مرة أخرى، وأمام الصمت العربي والدولي المريع، وأمام ابادة انسانية لا حدود لها ومحو لتاريخ وتراث مسيحي عمره من عمر نشأة المسيحية في هذا الشرق، يُصاب بلدنا بسهام العنف وسلاح الإرهاب وحراب الدمار وقتل الأبرياء وتكفير المؤمنين إضافة إلى حروب عديدة أودت بدمائنا الزكية وآخرها كان عام 2003 وما حصل حتى اليوم مع الاحتلال الذي ملأ أفواهنا دماءً، وعيوننا دموعاً، وقلوبنا حسرةً وألماً على مَن فقدناهم، وحملت ما حملت موجة الاحتلال مدى الأيام دماراً في النفوس، تهجيراً للشعوب، وتقسيماً للمؤمنين، وكان الضياع عنواناً والمخطط الكبير رسالةً ولا أحد يعرف لماذا كل هذا من أولئك الذين ينادون باسم الإنسان الذي جعلوه عبداً وفريسةً وتائهاً على شكل قائين. فأخوه هابيل قد قُتل وكان يفتش عن مأوى آمن، ولكن صوت الله كان الرقيب الأمين. فمَن يكون رقيبنا الأمين ليقول لنا حقيقة الإرهاب واحتلال بلدان وشعوبها، وتشويه وجه إنسان خُلق على صورة الله ومثاله. وفي ذلك يتباهى أقوياء الزمن حينما يرسمون مخططات الحروب وهم مدركين جيداً أن مفتاح البناء بيدهم ومفتاح الدمار بأياديهم، وفي كل ذلك تكبر حسرتي وتطول نظرتي ويسألني رجائي حتى ما أكون شهيداً لعنف وإرهاب وإجرام، حتى أقول بئس انسان استوحش، وبارك الرب بوحش مفترس استجلس حملا (اشعيا).
وطني يُصلب
صحيح لم يكن ببالي أو لم يخطر في أفكاري يوماً أن أتناول مقالاً لأصف ما حصل في التاسع من حزيران الماضي، فوجدتُ اليأس قد ملك على قلبي، وقلمي لم يعد يطاوعني، ونفسيتي التي بدأت تنسى ما حلّ يوم كارثة كنيسة سيدة النجاة حيث بدأتْ نبتة الأمل تنمو، ولكن ما جاء في الرابع والعشرين من حزيران الماضي برحيل أبناء بلدتي وقراي وهزيمتهم ليكونوا نازحين في قرى أخرى آمنة… أخذتُ أفكر ولكن دون جدوى، بل أردتُ أن أجمع أفكاري فلم أستطع حتى الساعة. فالواقع مؤلم، ووطني يُصلب، والهجرة قاتلة، والعنوان سخيف والطغاة لم يفكروا إلا بأنفسهم، والسلاح يعمل في الشعوب البريئة قتلاً وتدميراً وتهجيراً. لمسيحيين وآخرين، فالمسيحيون تقلع اصولهم، فبئس شعوب تبيع أوطانها للقتلة وللمجرمين، وبئس شعوب تقلع اصولها من التاريخ والحياة، وبئس كبار لا يمدون أيادي المحبة في سلام الله، وبئس نفوط من اجل نفوذ خزائن الجيوب إلى حقد وكراهية ليس فقط مميتة بل قاتلة للأصلاء الذين بعقولهم أدركنا أن نفوطنا ما هي إلا نعمة الله لشعوبها.
بحثاً عن الأمان
نعم، دوامة العنف قد عادت من جديد لتؤكد هيمنتها على أشخاص باعوا ضمائرهم وملئوا صدورهم حقداً وكراهيةً وبغضاً، كما تؤكد هيمنتها على أرض عُرفت بحضارتها وثقافتها وعراقتها وتاريخها وشموخها في الماضي ومن هذا الزمن القاسي شراسة الحياة وقينة المسيّرة، وهذا كله جعلنا نحن المسيحيين الأسوأ حالاً بين مسيحيي العالم. فالانقسامات الحادة أخذت صدارتها في المناصب، والأوضاع الأمنية تواصل مسيرتها المتعَبَة، ولم نسلم من الاضطهاد والعنف والتكفير والقتل على هوية بائسة في ظل احتدام نزاع مذهبي وطائفي وأخرى لا تُحصى ولا تُعَدّ، وهذه أزادت في هواجس أبنائنا، فحملوا حقائبهم ورحلوا بحثاً عن أمان… وإلا ماذا يعني البقاء ونحن أمامهم في مجاهل الزمن والتاريخ والوجود، ولا يبالون إلا بغاياتهم وسهراتهم وممتلكاتهم وينسون أن الآخرين يذرفون دموعاً كونهم ليسوا في الوجود، وإنْ وُجدوا… إنهم شعوب تقاسي الألم، وتشكو التوتر والقلق، وتعاني الاكتئاب والاختناق والانفعال، فنكون تائهين في دروب الأصدقاء والحلفاء وربما الأعداء، فيملك اليأس ويزداد الاحباط وتموت الدنيا ومآربها والحياة وأمالها أمام كل ذلك يُكتب على قبورنا “يرقد هنا طريد الأوطان وقتيل المذهبية وبريء اللصوصية وكافر الحقيقة”، وما إلى ذلك من مسميات مزيَّفة شئنا أم أبينا، وما علينا إلا أن نبصم على ذلك خوفاً أو إيماناً فهذا مسار الدنيا وهذا مراد الأغلبية وذلك دمار الشعوب وقتل الحوار ودفن الأبرياء في قبور جماعية.
الارشاد الرسولي
كل الثناء وكل الحمد وكل الشكر لآبائنا المغبوطين ولسادتنا الأجلاء حاملي رسالة الإيمان من أجل الحياة لإعلان الحقيقة في عِظاتهم ورسائلهم، في زياراتهم الرسولية الرعوية وتفقدهم للمهجرين والمهاجرين، عاملين وحاثّين مؤمنيهم على التمسك بأرضهم وعيش الرجاء وإبعاد اليأس مهما كان طريق الزمن قاسياً ورسالة الألم سالكة، فالأرض أرض تبقى، والشعوب تفنى وتزول والتاريخ لا يرفع إلا راية المحبة والحضارة والسلام… وهذه مسيرة حملها إلينا الإرشاد الرسولي، تقودنا إلى العيش في الحقيقة، والشهادة لمسيرة الإيمان، والشراكة مع المتشابهين والمختلفين والمتضادين حتى الأعداء… فتلك رسالة تقدس الإنسان بحضوره وسط الجماعة أي الكنيسة. فالبابا فرنسيس يقول:”الكنيسة ليست لبطرس بل للمسيح، وبطرس يمجد المسيح في الكنيسة. وإلهنا هو إله بشر وليس إله حجر”… إنها علامات زمن الله وليست علامات من صنع الإنسان.
سماح رباني
من المؤكد أن ما حلّ فينا وما حصل لنا وراءه مشيئة إلهية أو سماح رباني ليقول لنا كلمة الحقيقة في زمن عاد إلينا قائين ثانية بحقده وكراهيته، ببغضه وأنانيته، وما نحتاج إليه أن يكون ربنا على الصليب من أجلنا ليقول لنا “عبر الألم كانت القيامة، والقيامة بالألم أصبحت الحياة”، وما هذا إلا عمق إيماننا… ورغم الظلمة التي غطّت عيوننا، يملؤنا التساؤل عن حقيقة القيامة ونحن سالكون دروب المشقات كما حصل لتلميذي عماوس من أجل كلمة البشارة، ولكن في الواقع في هذا الزمن القاسي نحن مَن يحتاج للبشارة، لأنها لا تقوم على توصية بشرية يخطّها مِداد أرضي بل على وصية إلهية يكتبها الله بالذات بقوة روحه الحي فينا لمحو حقد الانتقام، لأن الانتقام يدعو إلى الانتقام، والدم يدعو إلى الدم، والأشخاص الأبرياء الذين قُتلوا ما هم إلا ضحايا قُدموا على المذابح الشيطانية كُرها وحقداً.
البشارة والأيمان
ما ينقصنا أحياناً بل دائماً شجاعة كي نحمل الأمانة بكل وفاء ولاسيما عندما نقف موقف الدفاع عن إيماننا. فعالم اليوم يغرق أكثر فأكثر في المادية، وبات الإيمان والتقوى محارَبين من كل اتجاه، وصار إعلان البشارة خجولاً سواء بالنسبة لِمَن يعلن الإيمان ويبشر به أم بالنسبة لِمَن يسمع البشارة ويقبل الإيمان، فقد قال أحد الرهبان الفرنسيين في القرن التاسع عشر:”إن الحقيقة تخلص أحياناً مَن يسمعها، ولكنها تخلص دائماً مَن يقولها”… فالعالم يرفض الكنيسة لأن يسوع المسيح هو الشهيد الأكبر، جاء ليقول من على الصليب “وُلدت الكنيسة من على الصليب، وانتشرت وخلقت مجتمعاً جديداً بالقيامة المجيدة”… فيسوع المسيح لم تنته قضيته يوم الجمعة في ختم القبر بل انتهت في أحد القيامة، وفي ذلك أحمل قيماً لمجتمع يرفضها لأنه ليس منها في هذا زمن الانحطاط وإحقاق الكذب والغش وقول الدجل والنفاق بدل إعلان الحقيقة من أجل الحياة… تلك راية لا يحملها إلا المؤمنون مهما اشتدّت أزمنة الألم وازدادت حسرة المسيرة.
المحبة والمحبة
من المؤكد أن المسيحي كان ولا زال وسيبقى رجلاً مسالماً وإنساناً يفتش عن الآخر عملاً بقول ربنا يسوع:”تحبوا بعضكم بعضاً” (يو17:15)، وفي ذلك لا يمكن أن تكون رسالته أو مهمته الدخول في صراع مع أبناء جلدته أو حارته أو سكان زقاقه، ولا يُطلب منه أن يكون خانعاً أمام المظالم وعبداً سيئاً أمام محبي المصالح الضيقة وإرادتهم في الأنانية المظلمة وهذا ما يدعوه أن لا يعيش على هامش حقائق الحياة خوفاً وهزيمة لكي يكون غريباً عن أرضه بعد أن سلبها الآخرون دون خجل، ولا يجوز هذا الموقف أن يجعله يبتعد عن تحمل المسؤولية والأمانة، بل تلك رسالة لأعلان الحقيقة “قولوا الحق والحق يحرركم” (يو32:8)، وهي أنه مهما ابتعد أو أبعدوه عن أرضه وتراب وطنه فهو جزء منها ومنه، وما عليه إلا أن يكون شاهداً لهذه الحقيقة، مؤمناً أن الأوطان لا تزول، والتراب شهادة للخليقة، والتحديات لابدّ من مجابهتها بـ “وداعة الحمام” (متى 16:10) و”حكمة الحيات” (متى 16:10)، وما ذلك إلا دعوة الإرشاد الرسولي “شركة وشهادة” في أن يكون المسيحي شاهداً لمسيحه ومشارِكاً الجميع بمسيحيته، وهذا ما يجعله أن يشارك الآخرين لا أن يعلن إيمانه على طرق الحياة.
ثقة في الله
صحيح إن عددنا يتضاءل، وكما قلتُ سابقاً في مقالات عدة، إن هذه المسيرة المؤلمة ستستمر ما دامت الأوضاع تسير من سيء إلى أسوأ وخاصة ما حدث بعد التاسع من حزيران الماضي حيث لا أحد كان يفكر أن ما وقع كان مخطَّطاً له وما يقابله لا أحد يفكر في حلول ناجعة تجعل الإنسان ثابتاً في أرضه ومُحباً لحبات ترابه… فالظروف التي تمرّ علينا، والإرادات السيئة التي تستحوذ على نفوسنا وأملاكنا وطرق معيشتنا وبغضهم لأمانتنا رغم أصالتنا في أرضنا، فالتاريخ لا يُزيَّف مهما حمله السيئون على صفحات مزركشة بكتاباتهم وإنشاءاتهم، فذلك لنا تحديات وتحديات هائلة لا مناص منها كما لا خلاص منها إلا بالثبات والشجاعة وإعلان الحقيقة مهما زُيّفت الكلمات والغايات، وما علينا إلا أن ننظر بعيون الإيمان ونستوقف أفكارنا ونثبّت لا فقط أقدامنا بل صوت أمانتنا كي نسمع صوت الرب وصداه يعمل في مسامعنا ومنها عبر سواعدنا، فنكون سفينة نوح الخلاصية بحقيقة الإيمان وليس بزيف الكبرياء والأنانية وبحكم الدنيا المزيفة، وفي ذلك نرسم نافذة منها نطلّ على الحدث دون خوف فهو معنا “لا تخافوا، أنا معكم” (متى 31:10). فمهما رقصت الأقدار وقصفت الهاونات وقعقع السلاح واطلقت النيران، ما يهمنا في كل ذلك أن نحافظ على إيماننا لننقله إلى أجيالنا لا لنجعله زوادة لحقائبنا، فالعالم الهائج يدعونا أن نفتش عن النجم حيث المولود (متى 2:2) فهو يكون لنا الدليل وسط شوائب العولمة المزيفة بأناس قدّسوا مآربهم المشوِّهة لوجوه الأبرياء، فغيّروا بوصلتهم وحالهم من أشرار إلى أبرار، وكتبوا أسماءهم في سجل الدنيا المزيفة، وأعلنوا أن لهم الحياة قد كُتبت، وما ذلك إلا كذباً وافتراءً كي يكون بجانبهم مَن هم أحباءهم فكانت ثقتهم فيهم ونسوا أن مَن لم تكن ثقته بالله فهو زائل، وتلك مسيرة الزمان في الغش والطغيان.
علامات ايمانية
نعم، تحاليل عديدة تبثّ في أجسامنا سموماً من أجل هجرتنا وترك أوطاننا، ويمكن أن تقال الحقيقة إذا ما شئنا بأن شعبنا قد قاسى الأمرَّين في الماضي والحاضر، وتخوفنا من أن يأخذ الدرب منحاه مرة أخرى في المستقبل فتضيع الرسالة والرسول، وربما يشوهها أهلها وآل بيتها فتكون في خبر كان. فلا يمكننا بعد البقاء والشهادة، وتموت العلامات والسمات والحياة، وتضيع الحقيقة في أن الشهادة أثمن من الرحيل من أجل لقمة الزمن والوقوف ساعات أمام بيوت الإقامة لنيل دولار الأسواق. في ذلك علامات لنا ولسكان الأرض ومؤمنيها في أن نكون للرب… ألم يقل توما:”إلى أين نذهب يا رب وكلام الحياة الأبدية عندك” (يو 68:6). لا يجوز أبداً مهما علت جبال الصعاب ومهما ارتفعت أصوات الاضطهاد ومهما زادت حالات التنكيل والعذابات، ستبقى مسيرة إيماننا هي هي لا تُباع ولا تُشترى لا بروح المال والقرابة والطائفة والعشيرة والحماية وحتى القومية، وتبقى العلامات ايمانية الحياة وما هذه إلا أصوات تجربة من إبليس حاملاً روح الايمان المزيف الذي يعلن صوته إلهاً بل عجلاً كما حصل في الزمن الغابر لحين سماع صوت موسى وهو يكسر لوحي الوصايا ليعلن أننا لم نحفظ وصية الرب الذي أرسلنا وعطية الكنيسة التي علّمتنا وإرشاد الآباء الذي رسم لنا مسار خارطة لطريق إيماننا كي نحمل إلى الآخرين محبة في أن “أذهبوا” (متى 19:28)… ألم يكن يدرك ربنا أن في ذهابنا ربما سنُقتَل!!، وإلا لقال لنا ستُقتَلون، بل قال “ارفعوا رؤوسكم فإن خلاصكم قد دنا” (لو 28:21)… إنها لحظة إيمان بل حقيقة ليس إلا.
حقائق وخفايا
لم نكن بحاجة إلى مغادرة أرضنا إن لم يكن هناك مخططات خفيّة ورسوماً سرية وقرارات أمنية وخرائط مخيفة تُرسم لنا وتخطط لتنفيذها، وما نحن لها إلا مطيعون، فليس بيدنا أن نجابه أو نضادد أو نصرخ أو ننتفض أو نتظاهر أو نعلن سوءها وحقارتها ونجاستها وكرهها وحقدها وشرها وإبليسيتها، فنحني لها قاماتنا المقدسة راحلة إلى حيث المحيطات وعبور البحار وكما هم يشاءون وليس كما نشاء، فنصبح بذلك علامات مسيَّرة لأهداف مدبَّرة لرسالة مؤامرة لإفراغ أكيد ورحيل بعيدٍ فلا عيد لنا، وفي ذلك يصبح المثل القائل “إذا صاحب العيد بعيد يبقى العيد بعيد”… صاحب عيدنا حقيقة إيماننا، مسيحنا الحي، فإذا ما أبعدناه عن مصير زماننا فلا عيدٌ يُكتب لنا، ولا شهادة تعلَن لغيرنا لأننا نحن أردناها مطيعين مطأطئين بل وحتى خانعين وإن كانت الأفواه تصرخ وتزمجر.
أن نغادر بلداننا وأوطاننا لطيب الإقامة حيث نحن راحلون لهدوء السكن، تلك غاية مبيتة وهدف من أجله حلّ ما حلّ فينا، فنكون بقولهم لنا كحيّة، تصيرون مثل الله وتعرفون كل شيء، هكذا يحلو لهم أن يقولوا لنا وننسى أن الله يطلب منا نفسنا في تلك الليلة (لو 20:12). يا لغباوتنا ويا لغشاوة عيوننا… ألم يكن قلبنا يبكّتنا على قلّة إيماننا، فالذي فعلناه ما هو إلا غاية ولأجلهم ليس إلا!!!.
ضحايا ابرياء
من دون شك أسأل: ما الذي اقترفه المسيحيون كي نكون ضحية ويا للأسف، فعندما تهب عواصف الحروب وتحلّ أزمات الحياة يُتَّهم المسيحيون بأنهم هم السبب بل أسباب رغم علمهم أنهم شعوب مسالمة لا يتعاطون السياسة ولا حتى أبوابها يطرقون، فيبرّرون الاعتداء عليهم وتكفيرهم وهذه مسيرة أمينة للأشرار يعملون بها منذ قرون وأجيال وحتى اليوم بل حتى الساعة، وهذا ما يجعل الخوف يملك على قلوبنا وينصّب نفسه أميراً على بلداننا فنموت في أنفسنا أو نرحل ولا مسلك ثالث يغيّر اتجاهنا، فنخسر وجودنا ويخسرون كل حقيقتهم وهم لها مدركون ولكنهم يفعلون ذلك لأنهم هكذا كُتب لهم وعليهم أن يعملوا بما كُتب، والويل لمسيرة بهذا الطعم السيئ وبهذا الذوق الشرير وبهذا المسلك البائس، فقد أرادوها أن لا تكون تلك حقيقة مهما قيل غريباً عنها.
تساؤلات واخرى
سنبقى نسأل أنفسنا – وطالما تساءلنا منذ القرن الماضي وحتى اليوم على وطننا وشرقنا وخصوصاً بعد كارثة كنيسة سيدة النجاة، تلك الحملة الشرسة التي استهدفت وجودنا، وعن السبب الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه حيث نُتَّهم في توتر العلاقات وفي طلب حماية المحتلين وتكفيرنا كما يحلو لأناس هذا الزمن – هل لنا من حماية دولية أو وطنية أمام الذي يحصل في بلادنا وأوطاننا المشرقية أين نحن متجهون؟، أين موقعنا على خريطة الدنيا؟، ما هو دورنا في شرقنا الذي ينعتوننا به أننا منه ومن أجله خُلقنا؟، هل فعلاً ستصحو شعوب الشرق غير المسيحية بأديانها المختلطة أن المسيحي واحد منهم وأنه لأجلهم عمل أصيلاً في حضارة وثقافة وكرامة ومحبة، هل فعلاً سنسمع من على منائر المساجد والجوامع والمعابد مَن يدافع عنا قلباً وقالباً، فكراً وحقيقةً، عملاً وتعبداً، رسالةً ومسيرة، حياةً ومقاسمة، أم تنقلب الآية بأنهم سيغزون أموالنا وسيأمروننا بدفع جزيتهم ويفرضون علينا مآربهم ومشاربهم في المأكل والملبس والسيرة والمسيرة في القيام والقيام في الصحو والغفو، في العمل والراحة، في الحقوق والواجبات، في الكلام والصمت؟… هل ستُقطَع ألسنتنا كي لا نجدّف ولا نتذمر؟، هل ستُمحى أسماؤنا كي تُعلن أحوالهم؟، هل ستُقطع آذاننا كي لا نسمع أجراس كنائسنا؟، هل سيُقَص شعر رؤوسنا كي يعلنونا من زمرة الكافرين؟، هل سيُمنع عن أنوفنا نسيم وطننا كي يكتبوا مسيرة جهادهم بأن لا يحق لهم إلا عيشاً كعبيد، كغرباء، كدخلاء، يؤمَرون ولا يُرفَضون، يطيعون صغاراً شاءوا أم أبوا أمام هذا كله؟… زادت أسئلتنا أيضاً ولابد من قولها: هل ستُحرق دساتير منطقتنا المشرقية بل الأوسطية والآسيوية كي تكتب لحقيقة العيش وحوار الكلمة وحقيقة الوجود وعظمة الساعد، فلا للأغلبية شروط ولا للأقلية الخضوع، فيصحّ في ذلك قول يوحنا المعمدان الشهيد يحيى بن زكريا أمام المسيح عيسى الحي “كل واد يمتلئ” (لوقا 5:3). أمام هذه الأسئلة وأخرى بعددها وأضعافها يبقى المسيحي متردداً في مسيرته وحائراً في عنوانه وضائعاً في دنياه وخائفاً في محرابه وتائهاً في عمله وشارداً في أفكاره وبعيداً عن أمنياته، فلا الإنسانية في داخله تحيا مجالها، ولا الكرامة في عمقه لها رسالتها، ولا مسيحيته في إيمانه لها حقيقتها.
الخاتمة: الصلاة هي الحل
حلّ ما حلّ فينا، وفي ذلك أقف منذهلاً (أرجو المعذرة) فتلك حقيقة… إنهم يحسبوننا أنه لا وجود لنا… فيوماً يطيّبون خواطرنا بأننا أبناء أصلاء لبلداننا وإننا حاملين حضارة الحياة وثقافة المسيرة فيصدرون قراراتهم وأوامرهم وتوصياتهم وأرقامهم، وينعتوننا بأننا جالية وأقلية وطائفة وتبعية ونصارى وأخرى، ولا يرسمون لنا مكاناً في ذلك إلا في ملحق أو تابع ولا أكثر، وهنا الشكر واجب للمخلصين الذين ينادون بحقيقة وجودنا.
سبق البابا بندكتس السادس عشر وأدرك ألآتي إلى شعوب كنائس الشرق الأوسط، فأعلن مناشداً إياهم أن يكونوا شهوداً في هذا الشرق مهما عانت الكنيسة من الاضطهاد واشتدّ الظلم عليهم متمسكين بالرجاء وعدم اليأس بأن المسيح هو الخلاص الذي ناله من أجلنا ربنا يسوع كي نحيا فيه وله ومن أجله فنحمل ثماراً لحياة جديدة كما عاشها أجدادنا الذين سبقونا وعلى مرّ العصور والأجيال… وهذا ما حصل حيث يشهد المسيحيون في المرحلة الراهنة أبشع أنواع الترهيب والقمع والتهجير القسري والضغط المعنوي والإساءة لديهم، فما يتعرض له شعبنا في مناطق مختلفة من دول الشرق وخاصة في مدينة الموصل هو ذروة الهجمات الإرهابية الشرسة التي تستهدف هذه المرة وجوده في أرض الرافدين، وتهدف إلى استئصاله كلياً من أرض أجداده، وهذا الاستهداف أرهب المجتمع المسيحي في العراق ودفع بأبنائه إلى الرحيل من مناطق سكناهم.
نعم، الصلاة تضطلع بدور بالغ الأهمية في معالجة القضايا القومية والسياسية الصعبة. فطوال تاريخ البشرية استطاع الأنبياء أن يخففوا من حدّة الأوضاع المتوترة من أجل الوصول إلى السلام والعدل. فتذكروا غاندي ومارتن لوثر كينغ والقديس يوحنا بولس الثاني، كم شهدوا على أن الدين يمكن أن يربح حرب مستعرة من دون حتى أن يرفعوا يداً واحدة… فدعونا نكنس من أفكارنا ما تعشعش، ونرفع قلوبنا إلى السماء… دعونا نخرج من مبانينا ونتجه إلى ذلك النور الساطع الذي ينير درباً واحداً لنتحرر من انانيتنا ونتجه إلى هناك وننهلّ من نفس المنبع الذي جمعنا يوماً، ولنعد من هناك متعانقين لنتعايش في حب وتفاهم “ولتكن كلمة عفوك لعدوك كلمة شكر لله الذي أحبك”… فرسالتنا هي تغيير القلوب من خلال كلمة الله في محاربة خطايا عصرنا من أجل حقيقة الحياة في الوصول إلى الوحدة في المواقف بعيداً عن أشكال العنف.وسيبقى ايماننا في الذي قام من القبر المسيح الحي يحيا فينا حتى ميناء الحياة، فمهما طُردنا ومهما سُلبنا سنبقى امناء لانجيل المسيح وسنعود نبني كنائسنا ونرفع صلباننا ونكرّم تماثيلنا ولن نرحل عن ديارنا، ارض اجدادنا واماكن عبادتنا، فنحن ابناء الرجاء ولا حزن ولا خوف يبعدنا عن محبة المسيح ومحبة بعضنا البعض مسيحيين ومسلمين.. ومهما يكن من امر تبقى اجراس كنائسنا تقرع وصلوات رعايانا ترتفع وتلك رسالة الحقيقة في تاريخ الزمن.. فالمسيحيون اصلاء وأمناء مهما أُقتلعت جذورهم واصولهم، شاءوا أم أبوا، مؤمنين بقول الرب يسوع “يقتلونكم ويطردونكم ويقولون عنكم كل كلمة من أجل اسمي، إفرحوا وابتهجوا فإن أجركم عظيم في السماوات” (متى 10:16-24) فوجودنا ليس في حياة الزمن بل في منازل الرب.. نعم وامين