هي أرضٌ وطأها القدّيسون، وحرَسوها على مدى السنوات والأيام، فخالَ مسيحيّوها أنّ وجودهم أزليّ فيها، وأنّهم مهما استسلموا أمام المخاطر التي تهدّده لن يُنتزع. فسارت الرياح عكس ما اشتهت سفنُهم، وها هو لبنانهم يَستغني عن المركز المسيحي الأوّل في الشرق الأوسط، خاذلاً أشخاصاً ساروا بأنفسهم نحو إلغاء وجودهم.
لكنْ رغم كلّ شيء…، ولا داعي لذِكر الويلات التي يعانيها لبنان، إلّا أنّ وجود المسيحيين فيه نعمة، وهو بدون شكّ محروس من قوّة إلهية تردّ الأخطار عنه، إذ وبالرغم من تكوّنه فوق بركان دائمِ الغليان، إلّا أنّ حممه تطاول البلدان المجاورة من دون المسّ به. وككلّ عام ينتظر اللبنانيون عيدَ السيّدة العذراء لشُكرها على كلّ النعم، ليقينِهم بأنّ عينيها الساهرتين على الوطن هما مَن تردّان عنه الأخطار.
عمّت احتفالات عيد السيّدة كلّ أرجاء لبنان، وقد أحيا اللبنانيون ليلة العيد باحتفالات امتدّت حتى الصباح، متناسين الأخطار الأمنية. ويأتي هذا العيد في صيف حارّ يمرّ على المنطقة بأكملها، خصوصاً مع ارتفاع حدّة المعارك في حلب أخيراً. أمّا على مستوى الداخل فقد تحدّى المسيحيون خطرَ الإرهاب وشارَكوا في الاحتفالات الشعبية التي وصَلت النهار بالليل.
ووسط كلّ ما يعانيه مسيحيّو الشرق مِن خوف على المصير، فإنّ وضعَ مسيحيّي لبنان يلخَّص على الشكل الآتي:
أوّلاً: الخوف الأمني ما زال موجوداً، خصوصاً بعد تفجيرات القاع، لكن كلّ تلك المخاوف بدّدَتها الخطة الأمنية التي نفّذها الجيش وحمى بها كلّ المناطق الحدودية.
ثانياً: إظهار المسيحيين تمسّكَهم الكبير وتجذّرَهم في الأرض، وقد ظهر ذلك جليّاً عندما حملَ رجال القاع ونساؤها السلاحَ، بالتنسيق مع الجيش، من أجل حماية بلدتهم من الإرهابيين.
ثالثاً: رهانُ المسيحيين على الشرعية كضمانة وحيدة لحماية وجودهم.
رابعاً: الرغبة المسيحية – الإسلامية بالعيش معاً في مواجهة أيّ غريب يحاول التسللَ إلى الداخل، وهذا الأمر يُطمئن المسيحيين، إذ إنّ التصدّي للإرهاب يقع على عاتق المسليمين أوّلاً.
خامساً: على رغم الطمأنينة الأمنية التي وفّرها الجيش المنتشر على الحدود، إلّا أنّ الخوف هو على الدور السياسي المسيحي في ظلّ استمرار الفراغ الرئاسي وكثرةِ الحديث عن مؤتمر تأسيسي سيكون على حسابهم.
وفي هذا الإطار، تؤكّد مصادر كنَسية لـ«الجمهورية» أنّ «المسيحي في لبنان متجذّر في هذه الأرض ويحاول الحفاظ عليها مع شركائه في الوطن»، مشيرةً إلى أنّ «الرهان الأوّل والأخير للمسيحيين هو على الجيش الذي نرفض كلّ أشكال الفراغ في قيادته، ولن نقبل بأن يَحلّ بقيادة الجيش مثلما حلَّ برئاسة الجمهوريّة».
وأشارت إلى أنّ «أيّ مؤتمر تأسيسي هو ضربٌ من الخيال، فالمسيحي لن يقبل به إذا كان ينتقص من حقوقه، لذلك على الجميع المبادرة إلى انتخاب رئيس للجمهورية فوراً، والمباشرة بالإصلاحات الضرورية، وليس الدخول في حفلة مزايدات ومحاصَصة طائفية جديدة».
بدوره، اعتبَر راعي أبرشية صيدا ودير القمر للروم الملكيين الكاثوليك المطران الياس حداد في حديث لـ«الجمهورية» أنّ «الخطر الوجودي لا يقتصر على المسيحيين فقط في لبنان، إلّا أنّه يجب على المسيحيين التمسّك بالدولة، خصوصاً وأنّ لبنان معرّض لتغيير نظامه»، مشيراً إلى «أنّنا لاحظنا أنّ المسيحيين لم يستطيعوا انتخابَ رئيس للجمهورية، لا خلال اختلافهم ولا خلال اتّفاقهم، وهذا يعني وجود خللٍ ما، فالمسيحي «لو زعل أو رضي» لا يستطيع إحداثَ أيّ تغيير على المعطيات الأساسية في البلد، وهو ما يَحدث للمرّة الأولى وما يدلّ على زيادة ضعفِ المسيحي عمّا قبل».
وأضاف: «تغييب الرئاسة يَدفع المسيحيّ ثمنَه ويُدفِّع لبنانَ كلَّه هذا الثمن، أمّا أمنيّاً فالجميع مهدَّد بالتساوي، لأنّ الخطر يطاول الكل».
ربى منذر
الجمهورية