فهو ليس كتابا منزلا بل موحى؛ والكاتب المُلهَم عبّر عن اختبار شعبه بلغته ومفاهيم مجتمعه[1].
هناك مع ذلك، آيات عديدة في “العهد القديم” تندّد بالعنف: “لاَ تَتَسَلَّطْ عَلَيْهِ بِعُنْفٍ، بَل اخْشَ إِلهَكَ” (لاويّين 25: 43)؛ “… فَلاَ يَتَسَلَّطْ إِنْسَانٌ عَلَى أَخِيهِ بِعُنْفٍ”. (لاويّين 25: 46)؛ “الْمَرِيضُ لَمْ تُقَوُّوهُ، وَالْمَجْرُوحُ لَمْ تَعْصِبُوهُ، وَالْمَكْسُورُ لَمْ تَجْبُرُوهُ، وَالْمَطْرُودُ لَمْ تَسْتَرِدُّوهُ، وَالضَّالُّ لَمْ تَطْلُبُوهُ، بَلْ بِشِدَّةٍ وَبِعُنْفٍ تَسَلَّطْتُمْ عَلَيْهِمْ” (سفر حزقيال 34: 4).
أمّا العهد الجديد فيشجب العنف جملة وتفصيلا. يقول السّيّد المسيح في الموعظة على الجبل: “طوبى للودعاء فانهم يرثون الأرض” (متّى 5: 4)؛ وأيضاً: “طوبى لفاعلي السلام فانهم أبناء لله يدعون” (متى 5: 9)؛ وأيضاً: “سمعتم أنه قيل للأقدمين: لا تقتل، فإنّ من قتل يستوجب المحاكمة، أما أنا فأقول لكم: إنّ كلّ من غضب على أخيه يستوجب المحاكمة…” (متى 5: 21 و22)؛ وأيضاً :”وسمعتم أنه قيل: عين بعين وسنّ بسنّ. أمّا أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشّرير. بل من لطمك على خدّك الأيمن، فقدّم له الآخر أيضاً…” (متّى 5: 38)؛ وأيضاً، “سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوّك. أمّا أنا فاقول لكم: أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم…” (متى 5: 43).
وقد علّم الرسول بولس التّعليم عينه: “لا تكافئوا أحدا على شرّ بشرّ” (رومية12: 17)؛ وأيضاً: “باركوا الذين يضطهدونكم، باركوا ولا تلعنوا” (رومية 12: 14)؛ وأيضًا: “سالموا جميع النّاس إن أمكن أو ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً” (رومية12: 18)؛ وأيضًا “أما ثمر الرّوح فهو المحبّة والفرح والسّلام وطول الأناة واللطف والصّلاح والأمانة والوداعة والعفاف” (غلاطية 5: 22 و23).
هذا التّعليم عن العنف يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتّعليم عن المحبّة. فالعنف مرفوض لأنّه يعكس موقفاً منافياً للمحبة. من رغب في إزالة الآخر من وجوده يشبه القاتل ولو لم يقتل بالفعل: “كلّ من يبغض أخاه فهو قاتل” (1 يوحنا 3: 15)؛ ومن لا يعتبر أنّ للآخر وجودًا مستقّلاًّ بل رام أن يسخّره عنوة لسيطرته، بعيد عن المحبّة التي تقبل بالآخر كآخر، ولو لم يشاركنا في الجنس واللون والرّأي والمعتقد.
إلاّ أنّ المشكلة حدثت بعد المسيح. ففي أعقاب مجمع نيقيا الأوّل أعلن الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير (379-395 م) في 21 شباط – فبراير عام 380 ما يلي: “إنّ مشيئتنا تقضي بأن تمارس جميع الشّعوب الخاضعة لإدارة عرشنا السّنيّ هذه الدّيانة التي كان نقلها الرّسول الإلهيّ بولس إلى الرّومانيّين… إنّ أصحاب الرّأي المخالف يُنعتون بالجنون… لا مواطن كاملا إلاّ المسيحيّ… أمّا الوثنيّون والزّنادقة والمرتدّون واليهود فمنبوذون خارج الجماعة. إنّ الإمبراطور هو من يقرّر. إله واحد في السّماء وإمبراطور واحد على الأرض. هو الحكم في كلّ وسائل الخلاف. فالحقائق الموحاة من الله مكرّسة من الكنيسة ومؤيّدة بسلطان الدّولة”.
إنّه الخطأ الأوّل. تتحمّل مسؤوليّته الإمبراطوريّة لا الكنيسة. اعتقدت إمبراطوريّة الرّوم بالحرب الدّفاعيّة. إلاّ أنّ الكنيسة الأولى كانت ترفض الحرب. أمّا القدّيس يوحنّا فم الذّهب فنفى كلّ عمل عنفيّ باسم الله. والقدّيس باسيليوس الكبير المتوفّي سنة 379، رفض رغبة الإمبراطور في أن يسمّى الجنود الذين قتلوا في الحرب شهداء.
ثمّ، بدأ العنف بالغرب تحت ستار المسيحيّة لكنّه ليس عنف الكنيسة والعهد الجديد. فنشأت محاكم التّفتيش الشّهيرة في العصور الوسطى. وأجبر “غير المؤمنين” على البقاء في بيوتهم خلال الأعياد الكبرى[2]. إلاّ أنّ ذلك لم يكن موقف الكنيسة الأولى. يقول أوريجينوس Origène (185-253) وهو من علماء الكنيسة الأولى: “لا نأخذ السّيف ضدّ أمّة ولا نتعلّم الحرب أبدا”. وقال ترتليانوس Tertullianus (حوالي 160 إلى 220 م) وهو أيضا من آباء الكنيسة: “ثمّة جنود مسيحيّون كثر، لكنّهم يرفضون القتال”. هذه هي المبادئ المسيحيّة الأصليّة القديمة. وعليه، إنّ الكنيسة في الشّرق لم تكن قطّ صليبيّة، ولم تدعُ إلى حروب صليبيّة، بل هي بالأحرى ما انفكّت تحمل على منكبيها صليب الخلاص. لا قتال في سبيل الله في المسيحيّة. أمّا حروب الفرنجة التي أطلق عليها بعض المستشرقين اسم “الصّليبيّة” فلم تُشنّ جميعها بمباركة الكنيسة إلاّ الحملات الأولى منها، دفاعا عن الحجّاج المسيحيّين والمقدّسات. وليس قبل أن تعرف البابويّة أنّ كنيسة القيامة في القدس قد دُمّرت بالكامل على يد الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله. ثمّ عادت الكنيسة فيما بعد إلى حبّها الأوّل؛ وقامت بنقد ذاتيّ صادق وجذريّ. فشجبت الحرب، إذ وعت الذّنب التّاريخيّ الذي ارتكبه المسيحيّون، وهي تناضل اليوم ضدّ كلّ عنف جسديّ ونفسيّ، ولا سيّما التّعذيب. إنطلاقا من قاعدة السّيّد المسيح الذّهبيّة: “من أخذ بالسّيف بالسّيف يؤخذ”.
فالمجمع الفاتيكانيّ الثّاني الذي عقدته الكنيسة للتّجديد الذّاتيّ قد سعى إلى تناسي الماضي الذي يشوبه الكثير من الأحقاد والمواقف العدائيّة نحو الدّيانات غير المسيحيّة. ساد هذا الجوّ خصوصاً في القرون الوسطى، ولم يتوقف عند هذا الحدّ، بل سجّل موقفاً تاريخيّاً شعاره الحوار والمحبّة انطلاقاً من الأمور المشتركة، ورابط الأخوّة الشّاملة، الذي يجمع شمل أعضاء الأسرة البشريّة الواحدة. فالكنيسة الكاثوليكيّة، التي تبشر بالمسيح وسيطاً وحيداً بين الله والإنسان، “لا تنبذ شيئاً ممّا هو في هذه الدّيانات حقّ ومقدّس”، بل ترى فيه “قبساً من شعاع الحقيقة التي تنير جميع النّاس”.
وعليه، قد رفضت الكنيسة الحرب على العراق رفضا قاطعا. إذ اعتبرها البابا الطّوباويّ يوحنّا بولس الثّاني جريمة ضدّ الإنسانيّة. والبابا السّابق بنيديكتوس السّادس عشر، عام 2011 في يوم السّلام العالميّ قال: “لا يمكن تبرير التّعصّب والأصوليّة والممارسة المخالفة لكرامة الإنسان ولاسيّما إذا تمّ تنفيذها باسم الدّين. لايمكن استغلال ممارسة الدّين أو فرضه بالقوّة”. أمّا البابا الإصلاحيّ فرنسيس، فما انفكّ يعمل لأجل السّلام. وقد قال في لقائه الأخير مع أعضاء اللجنة اللاهوتيّة الدّوليّة: إنّ الإيمان بإله واحد لا يتماشى مع العنف والتّعصّب. بل على العكس، لأنّ طبيعته العقلانيّة للغاية تعطيه بُعدًا عالميًّا، يقدر على توحيد النّاس ذويّ الإرادة الطّيّبة.”
[1] راجع، جوزف نفّاع، إشكاليّة العنف في الأسفار التّاريخيّة، أعمال المؤتمر اللاهوتي الرّابع في الجامعة الأنطونيّة…، ص. 82. [2] راجع، جورج ناصيف، في الهرطقة والعنف داخل الكنيسة، وقائع المؤتمر السّابع والثّلاثين…، ص. 49-52.زينيت