ثمّة هواجس حقيقيّة تثير القلق لدى المسيحيّين العرب بعامّة، والسوريّين واللبنانيّين منهم بخاصّة. ولا يمكن أحدًا أن يستهين بالوقائع والأحداث والخبرات المريرة التي شهدتها وما زالت تشهدها منطقتنا في الآونة الأخيرة. كما لا يسع أحدًا أن يتغاضى عن الويلات التي عانى منها أبناء هذه البلاد، عبر قرن من الزمان، جرّاء الحروب الداخليّة والصراعات المذهبيّة والطائفيّة، والاحتلالات الأجنبيّة والدولة الصهيونيّة.
هذه الهواجس التي تنتاب المسيحيّين لها ما يبرّرها، ولا سيّما أنّ نموذج العراق وما تعرّض له المسيحيّون العراقيّون وأبناء الجماعات الدينيّة والإثنيّة الأخرى ما زال حيًّا، ولـمّا ينتهِ النزيف بعد. وقد دفع المسيحيّون وما زالوا يدفعون الثمن غاليًا من رصيد أعدادهم وحضورهم وشهادتهم. فتناقصت أعدادهم، وتقهقر حضورهم، وتكاد أن تنعدم شهادتهم.
المسيحيّون العرب قلقون على مستقبلهم. نعم، هم قلقون، وليس ثمّة ما يطمئنهم. وأسباب القلق ما زالت ماثلة أمامهم وتتأكّد يوميًّا في ما يعاينونه من وقائع وآراء وكوابيس سوف تعيدهم إلى قرون وسطى ظنّوا أنّها ذهبت إلى غير رجعة. نعم، هم قلقون من مصير ينتظرهم لا يشبه سوى مصير إخوتهم في العراق أو في فلسطين. وهم قلقون لأنّهم في نظر بعضهم من أهل التطرّف ليس لوجودهم أيّ معنى أو أيّ اعتبار…
بيد أنّ المسيحيّين، بلا ريب، يتوقون إلى الحرّيّة والمساواة التامّة بين أهل الوطن الواحد. هم يريدون زوال الأنظمة الاستبداديّة التي لمصالحها الخاصّة جعلتهم يلوذون بها حصنًا واقيًا من حركات التطرّف الدينيّ. لكنّهم إذا تاقوا إلى الحرّيّة فإنّما يتوقون إلى نظام يحترم الحرّيّات، ليس فقط الحرّيّات الدينيّة والعباديّة بل السياسيّة أيضًا. هم يتوقون إلى دولة مدنيّة لا تنتقص من حقوق أحد لأنّه مخالف بالدين للغالبيّة من المواطنين.
لماذا يتوجّب على المسيحيّين والمسلمين حتميّة المفاضلة بين نظام لا دينيّ مستبدّ ونظام دينيّ لا يقلّ عنه استبدادًا وهدرًا للحقوق؟ لماذا عليهم المفاضلة بين وصاية حزبيّة أو استخباراتيّة ووصاية فقهيّة تنطق باسم الله البريء من كلّ منطق بشريّ يحاول احتكاره؟ لماذا يريد بعضهم دولة تتعامل مع مسيحيّيها عبر الانتقاص من مواطنتهم، وتاليًا الشكّ في هويّتهم الوطنيّة واستعدادهم للموت في سبيل الوطن وأبنائه كافّة؟ أليس ثمّة حلّ ثالث يقوم على احترام الإنسان وحقوقه بصرف النظر عن انتمائهم الدينيّ؟
أدرك المسيحيّون أنّ النظام الاستبداديّ الملتحف بغطاء العلمانيّة ليس ضمانةً دائمة لوجودهم، بل الدولة المدنيّة التي تحترم التعدّديّة والتنوّع ولا تنبثق قوانينها من شرع إلهيّ أو فقهيّ أو كهنوتيّ. لكن، في المقابل، لا يمكن المسيحيّين أن يركنوا إلى الفوضى والفتنة التي ربّما ستؤدّي إلى حروب مذهبيّة وطائفيّة، وهذا ما سيؤدّي حتمًا إلى هلاكهم. لا يمكن المسيحيّين أن يركنوا إلى “داعش” أو سواه من التنظيمات الإرهابيّة التي تريد محو ذكرهم من سوريا والعراق وبلاد الشام كلّها.
واقع الحال أنّ النكسة لا تكمن وحسب في تراجع أعداد المسيحيّين المشرقيّين وازدياد التنبّؤات بقرب زوالهم. لكنّ النكسة الحقيقيّة تكمن في انقسامهم ما بين فئتين تتصارعان على تحسين صورة نظام إسلاميّ تقبّحه الأخرى، فيما تعمل الثانية على تقبيح صورة نظام إسلاميّ آخر تحاول تحسينه الأخرى. حرب سنّيّة-شيعيّة بديلة تدور رحاها بين المسيحيّين وبأقلام مسيحيّة تجعل النظام الأحاديّ نظامًا تعدّديًّا، ونظام الحقّ الإلهيّ نظامًا ديمقراطيًّا، والنظام الذكوريّ نظامًا يحترم المرأة وحقوق الإنسان بعامّة.
المبادئ المسيحيّة تتناقض والاستبداد العلمانيّ والدينيّ على السواء. وإذا تاق المسيحيّون إلى الخلاص من نظام استبداديّ فهذا لا يعني البتّة أنّهم يتوقون إلى نظام استبداديّ آخر لا يقلّ ظلاميّة عن الأوّل. وهم لا يرغبون باستبدال نظام يقوم على الحقّ الإلهيّ بنظام يقوم على تسلّط فرد أو حزب واحد على الدولة والمجتمع. لكنّ المبادئ المسيحيّة لا تجد نفسها منسجمة مع سوى الدولة المدنيّة العلمانيّة التي تفصل بين السلطة الزمنيّة والسلطة الدينيّة، والتي في الآن عينه تحترم الحرّيّات وحقوق الإنسان، وليس في سواها من دول “علمانيّة” أو “دينيّة” مستبدة حاكمة بأمرها.
لسنا في صدد تخويف المسيحيّين، ولا نسعى إلى الاستخفاف بهواجسهم وقلقهم. التخويف والاستخفاف وجهان لعملة واحدة.
ليبانون فايلز