سيق القدّيس إغناطيوس أسقف أنطاكية، “أسقف سورية” وفق تعبيره، إلى روما عاصمة الإمبراطوريّة مقيّدًا بالأصفاد كي ينفَّذ به حكم الإعدام بالموت رميًا للوحوش. فكتب في رحلته الشاقّة تلك سبع رسائل إلى أهل المدن التي مرّ بها. هذه الرسائل، وهي كلّ ما وصلنا من مؤلفّاته، ضمّنها صفحات من أروع ما كُتب في الأدب المسيحيّ عن الشهادة الحقّ.
“من سورية إلى رومة أصارع الوحوش على الأرض وفي البحر، في الليل وفي النهار، يقيّدني عشرة فهود، أعني العساكر الذين يحرسونني. وكلّما صنعتُ إليهم خيرًا صاروا أكثر سوءًا. بيد أنّ معاملتهم لي كلّما ازدادت سوءًا أصبحتُ أنا أكثر تلميذًا (ليسوع)”. هذه الكلمات لإغناطيوس المستوحاة من تعاليم السيّد المسيح ومن إنجيله تحضّ المسيحيّين على عدم الانسياق إلى مبادلة الشرّ بالشرّ. فليس تلميذًا ليسوع ذاك الذي لا يتمثّل بمعلّمه، وبخاصّة حين كان مرفوعًا على الصليب.
يذكّرنا إغناطيوس الذاهب إلى الاستشهاد، في بداية القرن الثاني للميلاد، بألاّ نسمح للحقد بأن يجد طريقًا إلى قلوبنا، لأنّ المسيح والحقد لا يمكنهما التساكن في مكان واحد، كما أنّ النور والظلام لا يمكنهما أن يتساكنا. في زمن الشدّة هذا، زمن التجربة، زمن مقارعة “المسيح الدجّال”، ولكلّ زمن “مسيحه الدجّال”، بل لكلّ زمن “مسحاؤه الدجّالون”، كيف يمكننا أن نحافظ على نقاوة قلوبنا، فلا ننساق إلى روح الحقد والكراهية والانتقام؟
“صلّوا بلا انقطاع لسائر الناس، فإنّ لنا رجاء أن نراهم يبلغون إلى الله بالتوبة. قابلوا سخطهم بالوداعة، وكبرياءهم بالتواضع، وشتائمهم بالصلاة، وأخطاءهم بصلابة إيمانكم، وخلقهم الوحشيّ بالتواضع”. كأنّنا بإغناطيوس هنا يتوجّه، اليوم، إلى أهل بلده الأمّ سورية، كي يقول لهم ألاّ يفقدوا الرجاء بتوبة مَن يسيء إليهم أشد الإساءة. التوبة والتواضع والوداعة والصلاة والإيمان هي كلّها مداخل صالحة لوضع حدّ للعنف، لأنّ مقارعة الشرّ بالشرّ لن تصنع الخير لسورية، بل سوف تزيد الشرّ شرًّا على شرّ.
“لنُظهر لهم بصلاحنا أنّنا إخوة لهم حقًّا، لنجتهد أن نقتدي بالمسيح متنافسين في أيّ منّا يحتمل أكثر من غيره الظلم والتجرّد والهزء”. أهل سورية كلّها إخوة، أهل الدنيا كلّها إخوة، لذلك علينا أن نكون “هابيل”، لا “قايين”. رائع هو الكلام الوارد في القرآن، الذي قاله هابيل لأخيه حين همّ قايين بقتله، هذا الكلام الذي يذكّرنا بما قاله التراث المسيحيّ عن المسيح على الصليب، وبما قاله إغناطيوس وسواه عن الاقتداء بالمسيح: “لئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين” (المائدة، 28).
قبل أن يصل إلى رومة حيث ينتظره حكم الإعدام، كتب إغناطيوس إلى أهل تلك المدينة يحضّهم على الصلاة من أجله: “اكتفوا بأن تطلبوا لي القوّة الداخليّة والخارجيّة لأكون مسيحيًّا ليس بالفم وحسب بل بالقلب، وليس بالاسم فقط بل بالفعل، فإنّي إذا ما ظهرتُ مسيحيًّا بالفعل استحققتُ أيضًا هذا الاسم، وإذا ما غبتُ عن هذا العالم ظهر إيماني بلمعان أسنى”.
يقول التراث الأرثوذكسيّ عن إغناطيوس إنّه ذاك الطفل الذي أخذه يسوع بين يديه حين قال: “إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات” (متّى 18، 2). قبل ذلك صار ابن الله طفلاً وأرانا بسيرته النموذج الذي ينبغي الاقتداء به. وقد اقتدى به إغناطيوس وسائر الشهداء والقدّيسين. استشهادهم لم يجعل المسيحيّين يخافون أو ييأسون، بل دفعهم إلى مزيد من التمسّك بقيمهم الإنجيليّة.
إغناطيوس السوريّ انتصر على الإمبراطور الرومانيّ، وسوف ينتصر.
الأب جورج مسّوح