يلجأ بعضهم، كي يبرّروا أعمالهم المخالفة بعامّة، وحروبهم بخاصّة، إلى هذا النصّ الإنجيليّ: “فدخل يسوع الهيكل وأخذ يطرد الذين يبيعون ويشترون في الهيكل. وقلب مناضد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام” (مرقس 11، 15 وما يوازيها في الأناجيل الثلاثة الأخرى). فيتّخذون لأنفسهم مكان المسيح في الرواية، ويضعون أعداءهم موضع التجّار الذين يستحقّون القتل والطرد. لكن هل ثمّة قراءة أقرب إلى الفكر الآبائيّ من هذه القراءة؟
وجد آباء الكنيسة في هذه الحادثة عبرةً لهم، وللمسيحيّين عمومًا، لا لسواهم، يهتدون بها كي لا يسقطوا في التجربة، فلا يصيروا باعة يتاجرون بالقدسات بدلاً من أن يكونوا خدّامًا أوفياء للكنيسة على حسب قلب الله. ووجدوا أنّ هذه الحادثة إنّما تعنيهم هم، أبناء الكنيسة، أكثر ممّا تعني سواهم ممّن لا ينتمون إلى الكنيسة. فوضعوا أنفسهم، على عكس ما يجري اليوم، مكان الباعة لا مكان المسيح، كي ينتفعوا بالتوبة قبل أن يأتي المسيح فيطردهم.
طلب الآباء، إذًا، من أتباعهم أن يتنبّهوا إلى عدم السقوط في الفخّ الذي وقع فيه تجار الهيكل، لئلاّ يأتي المسيح فيطردهم كما طرد مَن سبقهم إلى تدنيس هيكل الله. يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+397) رافضًا العصمة البشريّة: “إنّ الله لا يشاء أن يكون هيكله متجرًا، بل بيت قداسة. فهو لا يصون الخدمة الكهنوتيّة بواجب دينيّ لا صدق فيه، بل بطاعة اختياريّة… لقد علّم أنّ المتاجرة الدنيويّة ألاّ تأخذ لها الكنيسة مكانًا، لذا طرد الصيارفة بصورة خاصّة، الذين يبتغون الربح من مال الربّ ويعجزون عن التمييز بين الخير والشرّ”.
كما يدعو الراهب الموقّر بيد (+735)، وهو أحد معلّمي الكنيسة، المؤمنين إلى التوبة وعدم التصّرف كما تصرّف التجار والصيارفة في الهيكل كي لا يأتي المسيح فيطردهم. يقول بيد: “لقد طرد المسيح التجّار المحتالين وجماعتهم خارجًا، مع كلّ ما يتعلّق بأمتعة التجارة… فيجب علينا أن نتجنّب الأعمال الشرّيرة بعناية فائقة وبمثابرة مجتهدة، لئلاّ يأتي المسيح فجأة ويجد شيئًا ما شرّيرًا فينا، فنكون، نتيجة لذلك، مستحقّين الجلد حقًّا والطرد خارج الكنيسة”.
يؤكّد القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+202) على هذا التفسير الآبائيّ الداعي إلى تنظيف الهيكل ممّن يتاجرون فيه ويعيثون فيه فسادًا، فيلجأ إلى قراءة رمزيّة للحدث يرى فيها أنّ الهيكل ليس سوى جسد الإنسان: “أوما تعلمون أنّكم هيكل الله، وأنّ روح الله يسكن فيكم؟ فالذي يُفسد هيكل الله يُفسده الله. لأنّ هيكل الله مقدّس، وهو أنتم” (رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 3، 16-17). الإنسان، إذًا، وفق إيريناوس في قراءته الحدث، مدعوّ إلى أن يطرد من جسده الخطيئة، أن يتوب.
ويذهب أوريجنّس (+235) المذهب عينه إذ يؤكّد أنّ المسيح “يغار على بيت الله في كلّ واحد منّا، ولا يشاء أن يكون بيت الصلاة مكانًا للتجارة، أو أن يصبح مغارة لصوص، فهو ابن لإله غيور… يبيّن هذا الكلام أنّ الله لا يشاء أن يختلط شيء غريب عن مشيئته بنفس أيّ واحد منّا، سيّما نفوس الذين يرغبون في أن يقبلوا تعاليم الإيمان الإلهيّ”.
وفق هذه القراءة الكنسيّة، نستنتج أنّ الآباء وجدوا في هذا الحدث دعوة إلى تنظيف الكنيسة من التجّار الذين يستغلّون مواقعهم فيها من أجل غاياتهم الدنيويّة ومصالحهم الخاصّة. فالمسيح لم يأتِ ليطرد أبناء الأمم الغريبة، بل أتى وطرد من الهيكل أبناء الهيكل ممّن لا يستحقّون أن يكونوا أبناء للهيكل. ويؤكّد هذا الكلام ما قاله يسوع استنادًا إلى ما ورد في العهد القديم: “بيتي بيت صلاة يدعى لجميع الأمم، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص” (مرقس 11، 17).
فهل يجوز الصمت أمام التجّار واللصوص الذين يحتلّون هياكل الله؟ هل يجوز الصمت أمام التجّار واللّصوص الذين يزعمون أنّهم يقومون بعمل يسوع إذ يطردون تجّارًا ولصوصًا آخرين على شبههم ومثالهم؟ هل يجوز الصمت أمام الذين لا يتحلّون بوداعة المسيح ويحتجّون باسمه كي يشنّوا حروبهم؟
• المراجع الآبائيّة مستلّة من سلسلة التفسير المسيحيّ القديم للكتاب المقدّس، منشورات جامعة البلمند، المجلّدين: الإنجيل كما دوّنه متّى، الجزء الثاني، ص 196-197، والإنجيل كما دوّنه مرقس، ص 235-236، والإنجيل كما دوّنه لوقا، ص 460-461، والإنجيل كما دوّنه يوحنّا، الجزء الأوّل، ص 144-146.
ليبانون فايلز