يكتفي النصّ الإنجيليّ بإشارة مقتضبة إلى إنّ يوسف الراميّ قد طلب من بيلاطس جسد يسوع ليدفنه بعد موته على الصليب، فاستجيب طلبه… غير أنّ كاتب الترنيمة “أعطني هذا الغريب” التي ترتَّل، نهار الجمعة العظيمة، في خدمة جناز المسيح فيضع على لسان يوسف كلامًا يعبّر أفضل تعبير عن رؤية الكنيسة لشخص يسوع المسيح وتعاليمه. فيوسف الراميّ يقول، وفق الترنيمة، لبيلاطس: “أعطني هذا الغريب الذي منذ طفوليّته تغرّب كغريب، أعطني هذا الغريب الذي أستغرب مشاهدتي إيّاه ضيفًا للموت، أعطني هذا الغريب الذي يعرف أن يقري الفقراء والغرباء (…) الذي بما أنّه غريب ليس له أين يسند رأسه”.
لا ريب في أنّ كاتب هذه الترنيمة قد استند في تأليفه إلى التراث الإنجيليّ الذي يضع على لسان يسوع القول الآتي: “لأنّي جعتُ فأطعمتموني، وعطشتُ فسقيتموني، وكنتُ غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فعُدتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليّ” (متّى 25، 35-36). ويمكننا، هنا، أن نستعين أيضًا بفاتحة الموعظة على الجبل التي فيها يمنح المسيح الطوبى للمساكين بالروح، والودعاء، والمحزونين، والجياع والعطاش إلى البرّ، والرحماء، وأطهار القلوب، والساعين إلى السلام، والمضطهَدين على البرّ (متّى 5، 1-12)، لكي نؤكّد أنّ المسيح، في النصّين معًا، تكلّم على أهمّيّة الخدمة المجّانيّة والمحبّة والرحمة ما بين البشر في سبيل بلوغ الخلاص.
لقد ساوى يسوع نفسه بالمستضعَفين من كلّ الأمم، وقال بوضوح إنّ مَن يصنع الرحمة إلى هؤلاء، فكأنّما صنعها إلى الربّ نفسه. والنصّ الحاضر لا يشير إلى شرط الإيمان بابًا إلى الخلاص، علمًا أنّ ثمّة نصوصًا أخرى تؤكّد على شرط الإيمان بابًا إلى الحياة الأبديّة. لذلك، لم يُشر النصّ إلى الهويّة الإيمانيّة أو الدينيّة أو المذهبيّة لصانعي الرحمة، “حينئذ يجلس ابن البشر على عرش مجده، وتُجمع إليه كلّ الأمم”… والمقصود بالأمم اليهود وكلّ الديانات الأخرى الموجودة في العالم. وكانت الأمّة تعني، آنذاك، الأمّة الدينيّة، وكان اليهود يرفضون أيّ علاقة بينهم وبين الأمم، فأتى يسوع ورفع الحواجز ما بين الأمم ودعاها كافّة إلى قبول الخلاص… وقد قصد أيضًا أن يقول لليهود، بني أمّته، إنّ ثمّة أناسًا صالحين في الأمم الأخرى، سوف ينظر الربّ إليهم بعين الرأفة.
في السياق ذاته يرينا الإنجيل أنّ الغريب قد يكون أقرب إلى تنفيذ وصية الرحمة والمحبّة أكثر ممّن يظنون أنفسهم أقرب إلى الله. ولنا في مثل “السامريّ الرحيم” (لوقا 10، 25-37) خير مثال على ما نقول، حيث يؤكّد الربّ على أنّ القرابة بين إنسان وآخر ليست هي الناشئة من الانتماءات العائليّة أو الوطنيّة أو الطائفيّة، أو من أيّ عصبيّة أخرى، بل هي تلك التي تفرضها الظروف الطارئة حين نلتقي بمَن هم في حاجة إلى محبّتنا ورحمتنا. وهذا بالضبط ما صنعه السامريّ تجاه الواقع بين أيدي اللصوص. فالسامريّ لم يتابع طريقه، بل توقّف وأرجأ كلّ مشاريعه عندما شاهد اليهوديّ، الذي يعتبره عدوًّا وهرطوقيًّا، مشرفًا على الموت.
يعتبر التراث المسيحيّ أنّ “السامريّ الصالح ليس سوى المسيح نفسه”، فالمسيح هو القريب الكامل الذي أرسله الآب ليضمّد جراحنا، وليخلّصنا من قبضة الشرّير ومن ظلام الموت. وقياسًا يسعنا أن نرى المسيح ذاته في كلّ مَن يُطعم جائعًا ويسقي عطشانَ ويكسو عريانًا ويأوي غريبًا ويعود مريضًا ويزور سجينًا. وانطلاقًا ممّا قاله القدّيس الرسول بولس: “فأناشدكم أن تقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح” (1 كورنثوس 4، 16 و 11، 1)، يدعونا أوريجنّس الإسكندريّ (+235) إلى الاقتداء بالسامريّ الذي هو صورة المسيح، فيقول: “يمكننا أن نقتدي بالمسيح وأن نشفق على الذين وقعوا في أيدي اللصوص، ونذهب إليهم، ونضمّد جراحهم، ونسكب عليها زيتًا وخمرًا، ونحملهم على دوابّنا، ونرفع عنهم أعباءهم”.
المسيح هو الغريب، وهو، في الآن عينه، مَن يصنع الرحمة إلى الغريب. فحين نصنع الرحمة إلى المستضعَفين فكأنّنا نصنعها إلى المسيح نفسه، وفي الآن عينه، يسعنا أن نقول إنّ كلّ مَن يصنع الرحمة إنّما يقتدي بيسوع نفسه، يصبح على صورة المسيح ومثاله. في هذا الصدد يقول القدّيس أبيفانيوس القبرصيّ (+403) في شرحه هذا القول: “أيجوع ربّنا ويعطش؟ أيعرى، هو غير المتغيّر في طبيعته، الذي خلق ما في السموات وما على الأرض، الذي يغذّي الملائكة في السموات، وكلّ أمّة وجنس على الأرض؟ لا يعقل أن نظنّ ذلك. الربّ لا يجوع في جوهره، بل في قدّيسيه؛ لا يعطش في طبيعته، بل في الفقراء”.
ليبانون فايلز