لا يعرف الرسول بولس يسوعَ المسيح إلاّ مصلوبًا معلّقًا على الخشبة. ثمّة تماهٍ لديه ما بين المسيح “وإيّاه مصلوبًا”. لذلك نراه يقطع سياق عباراته كي يؤكّد هذه الحقيقة التي لا يعتريها أيّ لبس أو شائبة. حتّى أنّه حين يورد نشيدًا عن عمل يسوع في العالم (فيلبّي 2، 6-11) نلاحظ أنّه يخالف الوزن الشعريّ للنشيد كي يضيف إليه عبارة “موت الصليب”، تأكيدًا لكون المسيح قد مات على الصليب وليس بأيّ طريقة أخرى.
يعبّر القدّيس بولس عن هذا التماهي في رسالته الأولى إلى أهل كورنثس حيث يقول: “فإنّي لم أشأ أن أعرف شيئًا، وأنا بينكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح مصلوبًا” (2، 2). واللافت أيضًا أنّ بولس لا يشير هنا إلى أنّ قوّة المسيح تكمن في ألوهته أو في كونه ابن الله الأوحد، بل تكمن قوّته في الصليب الذي مات عليه حبًّا بالعالم: “ولـمّا كان اليهود يطلبون الآيات، واليونانيّون يبحثون عن الحكمة، فإنّنا نبشّر بمسيح مصلوب، عثار لليهود وجهالة للوثنيّين، وأمّا للمدعوّين، يهودًا كانوا أم يونانيّين، فهو المسيح، قدرة الله وحكمة الله” (1 كورنثوس 1، 23-24).
في هذا السياق يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (407): “يطلب اليونانيّون منّا بلاغة الكلام، ودقّة السفسطة. لكنّا نبشّرهم بالصليب الذي يبدو لليهود ضعفًا، ولليونانيّين حماقة. فإنّا لا نقدّم ما يطلبونه، بل نقدّم عكس ما يطلبونه. فالصليب لا يبدو أنّه برهان عن قوّة، بل هو إدانة للضعف. ليس عرضًا للحكمة، بل دلالة على الحماقة”. أجل، الصليب هو برهان القوّة، لا الضعف. الشجاع هو الذي يقبل أن يحمل صليبه كما حمل المسيح صليبه. الجبان الرعديد هو وحده مَن يرفض صليبه. الجلاّدون هم الجبناء. الشهداء، وفق الإيمان المسيحيّ، هم الأبطال.
لا ريب في أنّ التراث الكنسيّ كلّه يجمع على القول بأن المسيحيّة لا يمكن اختزالها إلى ممارسة للشريعة وحسب، كما لا يمكن اختزالها إلى نظريّات فلسفيّة أو فكريّة وحسب. المسيحيّة، إمّا أن تكون تنفيذًا لوصيّة المحبّة، أو لا تكون. لذلك، المسيحيّ الحقيقيّ هو مَن يحبّ مجّانًا، كما أحبّ المسيح العالم مجّانًا، بل دفع دمه على الصليب ثمنًا لهذه المحبّة. هذا لا يعني أنّ المسيحيّة تحتقر الشريعة أو الفلسفة، بل تعتبرهما ثانويّتين أمام ممارسة عمل المحبّة.
بماذا، إذًا، ينبغي أن يفتخر المسيحيّ؟ إذا شاء التمثّل بالرسول بولس الذي قال “اقتدوا بي كما أنا بالربّ”، فدونه ما يعلنه الرسول نفسه جهارًا: “حاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم” (غلاطية 6، 14). لم يفتخر بولس الرسول بألوهة يسوع، ولا بالعجائب التي اجترحها يسوع وتلاميذه… افتخر بالصليب وبالموضوع عليه، وحسب.
المسيحيّ مدعوّ إلى الاقتداء ببولس كما بولس بالرب… عليه، إذًا، ألاّ يفتخر بالصليب، ذهبًا أو فضّة أو حتّى خشبًا، مزيّنًا بها صدره، أو مرفوعًا أمتارًا على الجبال، أو موضوعًا على قبب الكنائس… أن يفتخر المرء بالصليب هو أن يحمل “في جسده سمات الربّ يسوع”، وفق الرسول بولس (غلاطية 6، 17). أن يفتخر المرء بالصليب هو أن يحبّ العالم كما أحبّه المسيح، الذي بذل نفسه من أجل حياة العالم.
الأب جورج مسوح
ليبانون فايلز