تبرز القيم التأسيسية للوطن اللبناني، أو ما يمكن تسميته بالميثاقية، في المرحلة المفصلية في تاريخ لبنان بين إعلان لبنان الكبير سنة 1920 والميثاق الوطني في 1943. كل المراحل التالية في تاريخ لبنان الثقافي والدستوري هي فترات اضطراب أو تأصيل أو تطوير أو تطبيق أو تلوث أو انتهاك لهذه القيم.
الثقافة الميثاقية اللبنانية متأصلة في الحياة اليومية لدى شيخ الضيعة وغالباً عرضة لاغتراب لدى أكاديميين ومُثقفين. لكنه لم يعد جائزاً، كما في سنوات ما قبل الحروب في لبنان (1975 – 1990)، القول بأن ميثاق 1943 “غير مكتوب”. لم يكن مكتوباً دستورياً. لكن كثافة وثائقه ومصادره منذ لبنان الكبير ثم إيراده في مقدمة الدستور اللبناني المعدّل بعبارة “ميثاق العيش المشترك” وجذور وثيقة الوفاق الوطني – الطائف تُحتم الغوص في هذه المصادر لاستخلاص المبادئ التأسيسية والمضمون.
أولاً: الميثاق مفهوم علمي في علم التاريخ المقارن والعلم الدستوري المقارن: تعتبر أيديولوجية سائدة أن البناء القومي nation building يتم بالحديد والنار انطلاقًا من مركز يمتد بالقوة إلى الأطراف. لكن مؤتمر الأونيسكو سنة 1971 حول موضوع: “أنماط البناء القومي من منظور مقارن” أظهر نمطاً آخر في البناء القومي في الديموقراطيات الأوروبية الصغرى (سويسرا، النمسا، البلاد المنخفضة، بلجيكا) وفي بلدان أخرى كلبنان بفضل سياسة تعاقدية تفاوضية وتنازلات متبادلة نتيجة نزاعات مُمتدة داخلية وإقليمية حيث يستحيل الانتصار أو حيث الانتصار أو الاستمرار في المأزق بالغ الكلفة أو لا مصلحة للمنتصر بالتصرف كمنتصر.
العبارات في هذا النمط القومي هي diète، covenant ،alliance ،junktim ،Friday agreement. وفي لبنان: تنظيمات شكيب أفندي، عاميات، ميثاق، الوثيقة الدستورية، ميثاق 1943، وثيقة الوفاق الوطني (الطائف)…
يمكن التمييز في الثقافة الميثاقية اللبنانية بين ثلاث مراحل: الطفولة (1920-1943)، والمراهقة (1943-1990) مع الانخراط في “حروب من أجل الآخرين” حسب تعبير غسان تويني، والمرحلة الحالية التي تشمل التساؤل التالي: هل بلغ اللبنانيون اليوم نتيجة المعاناة والاختبار سن الرشد الميثاقي؟ هل تكون بالتالي وثيقة الطائف ميثاقنا الأخير “نغنيه ولا نلغيه”، حسب تعبير رشيد كرامي سنة 1976 في خضم نقد ميثاق 1943؟
الميثاق في اللغة العربية هو أبعد من العقد. إنه “عهد ووثاق” حسب دراسة لسامي مكارم. الحاجة إلى احترام المواثيق وعدم التصرف كزوجين يعيدان النظر يومياً في تعهدهما وليس بمجرد التداول حول ميزانية العائلة وتربية الأولاد واثاث المنزل… لذلك يصف ادمون رباط المواثيق بـ”التعهدات الوطنية”.
مضمون الميثاق
ثانياً: مضمون الميثاق: ثلاثة مبادئ: يُستخلص من ضخامة الوثائق التاريخية حول الميثاق اللبناني، بخاصة منذ بيان أبرز مهندسيه وهو كاظم الصلح في وثيقته: “بين الاتصال والانفصال” سنة 1936 ثلاثة مضامين مترابطة ومتكاملة.
المبدأ الأول: وطن مشترك إسلامي مسيحي أو “ميثاق العيش المشترك” (مقدمة الدستور): تتناقض الميثاقية مع ثلاثة طروحات ماضية أو خلال سنوات الحروب (1975-1990): الفيدرالية الجغرافية، التقسيم، ومختلف أشكال الفرز السكاني والمناطقي في مجتمع حيث “الطوائف متوازنة في العدد ومتوزعة في المناطق”، حسب تعبير لتقي الدين الصلح. يندرج التلاعب في نقل النفوس في اللوائح الانتخابية، ومنح الجنسية بدون ضوابط، وشراء الأراضي بهدف تغيير تنوع التراث السكاني والجغرافي، في عملية فرز أو هندسة سكانية سلبية النتائج على الميثاق اللبناني. وتندرج في سياق الميثاق متابعة الجهود في سبيل عودة المهجرين خلال حروب 1975-1990 إلى ديارهم.
ومن الأسس الدستورية والرمزية للميثاق اللبناني التقيد المتبع في المواقع الثلاثة العليا في الدولة. بالتالي، كما يقول الوزير السابق والنائب روبير غانم، فإن “تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية قصداً، بحجة تأمين مصلحة المسيحيين، وهو يجسّد الميثاقية في أعلى الهرم” خرق للميثاقية (“النهار”، 24/9/2016).
المبدأ الثاني: ضمانات حقوقية لكل الطوائف: تشمل هذه الضمانات الحريات الدينية والثقافية والمشاركة. ترِد هذه الضمانات في ثوابت الدستور اللبناني، باستمرراية منذ المماليك، وبوضوح أكبر في الدستور اللبناني المعدل. تشمل هذه الضمانات الحقوقية ثلاث قضايا: التمييز الإيجابي discrimination positive أو قاعدة “الكوتا” (المادة 95)، والإدارة الذاتية autonomie personnelle ou fédéralisme personnel على أساس شخصي في الأحوال الشخصية والتعليم (المادة 10)، وأيضاً المشاركة من خلال المناصفة والأكثرية الموصوفة وتأليف الحكومات (المادتان 65 و95).
لا معالجة لهذه القضايا من منطلق “حقوق مسيحيين” و”حقوق مسلمين” للأسباب الحقوقية التالية:
1. التمييز الايجابي: منذ السبعينيات تطورت الأبحاث حول قاعدة التمييز الإيجابي. الحاجة إلى التقيد بمعايير والعمل على تطبيقها في الممارسة ولصالح كل المواطنين تحقيقاً للمشاركة وللمصلحة العامة في آن.
إن اعتماد مبدأ المناصفة هو ثمره اختبار ومُداولات، وبخاصة بيان الاجتماع الإسلامي الذي دعا إليه الرئيس صائب سلام حيث جاء في البيان: “لبنان لا يساس بحكم الأرقام ولا يستقيم أمره وتبنى حياته الوطنية إلا بروح القناعة المشتركة” (“النهار”، 19/8/1982).
وتندرج المناصفة في إطار الهيئة الانتخابية الموحدة Collège électoral unique أي بدون فرز طائفي وحيث ناخبون من طوائف مختلفة ينتخبون مرشحين من طوائف مختلفة. يعني المبدأ تجنب الفرز المتعمد والمخطط في السياق الانتخابي.
2. الحكومة في لبنان سلطة “إجرائية”: المجلس النيابي في كتابات الآباء المؤسسين للدستور اللبناني بخاصة كتابات ميشال شيحا وفي مجتمع مؤلف من 18 طائفة هو مكان الحوار الدائم. أما الحكومة في لبنان فوردت تسميتها قصداً في الدستور اللبناني بالسلطة “الإجرائية” exécutoire (الفصل الرابع)، أي، حسب “لسان العرب”: “تجعل الأمور تجري”.
من الطبيعي في كل الأنظمة تأليف حكومات إنقاذ أو اتحاد وطني في حالات حصرية. لكن عندما تصبح الحكومة إطاراً تمثيلياً لكل القوى السياسية وبرلمانًا مصغراً miniparlement، ينتفي تماماً مبدأ الفصل بين السلطات وينتفي توفر معارضة وتنتفي مبادئ وممارسات المحاسبة كافة. يصبح شبه مُحتم في حكومات تضم الأضداد اجراء اتفاقات بين النخب ententes interélites أي محاصصات على حساب القانون والمصلحة العامة.
في ثقافة سائدة يخلط قانونيون بين الفيدرالية الجغرافية والفيدرالية الشخصية. في الفدرالية الجغرافية، كما في سويسرا أو بلجيكا، يمكن أن تكون الحكومات مجلساً ائتلافياً بدون مخاطر الجمود لأن أكثر القرارات تُتخذ في المقاطعات. أما في الفيدرالية الشخصية، أي في دولة موحدة كلبنان، فتحوّلُ الحكومات إلى ائتلافات تضم الجميع هو مأسسةٌ للشلل.
في مسألة المشاركة، المادة 65 من الدستور هي عبقرية في المخيّلة الدستورية على المستوى المقارن! إنها تتجنب تعسف الأقلية وتعسف الأكثرية abus de minorité/abus de majorité من خلال الأكثرية الموصوفة majorité qualifiée في 14 حالة محدّدة. بشكل عام، إن موضوع الأكثرية والأقلية طائفياً هو غالباً مفتعل حيث كل الطوائف في لبنان أقليات، وكل أكثرية في لبنان بطبيعتها متعددة الطوائف.
ما الوضع إذا امتنعت طائفة أو بعض أعضائها (ولا نقول طائفة أساسية لأن كل الطوائف أساسية) عن المشاركة في الحكومة، فهل الحكومة تناقض “ميثاق العيش المشترك!” الجواب في السبب الثالث.
3. طبيعة التعددية اللبنانية: يُعبّر مجرد طرح “حقوق مسيحيين” و”حقوق مسلمين” وحقوق “موارنة” “وشيعة” عن التباس في طبيعة التعددية اللبنانية وعن إدراك لبنان كمجموعة قبائل مُنفصلة في حين أن التعددية اللبنانية متداخلة.
تكون التعددية قصوى حيث يولد الانسان ويدرس ويعمل ويتزوج ويعيش… ويموت ويُدفن بين جماعته. تكون التعددية متداخلة العضويات في الحالة حيث مثلاً ماروني يسكن في جونيه، ويعمل في مصرف في الحمراء، ويتزوج من فتاة من الشوف، وهو عضو في نقابة موظفي المصارف، وعضو في حزب القوات اللبنانية، وله أملاك في الشوف والبقاع… تظهر تعددية الانتماءات هذه overlapping membership في معبر المتحف – بربير خلال سنوات الحروب (1975-1990) في أفواج الناس بالمئات وقافلات الشاحنات التي تنتظر العبور.
ما الوضع في حال اعتكاف أو استقالة أعضاء الحكومة أو بعضهم من طائفة مُحددة؟ داخل كل طائفة في لبنان تعددية مُمثلين للطائفة. لا يحتكر أي سياسي تمثيل كل الطائفة. وبالأساس، إذا عدنا إلى الأساس، ليست وظيفة الحكومة اللبنانية “التمثيل” بالمعنى الانتخابي والنيابي، بل إدارة شؤون البلاد “إجرائيًاً”. يختلف الامر في حال “عزل” مقصود وكامل لكل أعضاء الطائفة، مما يعبّر عن أزمة بنيوية تقسيمية او إرهاب وضغط تجاه أبناء الطائفة ككل. أما ادعاء أحد كبار ممثلي الطائفة باحتكار تمثيلها ككل فهو يلتقي تماماً مع سياق العزل حيث المعزول هو أيضاً عازل لغيره! يقول الرئيس نبيه بري: “بدأت مصائب لبنان عندما اتخذ قرار العزل وقال الامام موسى الصدر آنذاك لا” (افتتاح ثانوية موسى الصدر في الهرمل، “النهار”، 22/8/1994).
عروبة مُستقلة وتحييد
المبدأ الثالث: ترد دائماً في الوثائق الميثاقية عروبة لبنان مُلتصقة ومُشترطة باستقلال لبنان وسيادته. هنا مكمن المعضلات، بخاصة خلال أزمات 1958، 1969، 1973 وحروب 1975-1990 واستمرار الانخراط في حروب إقليمية… “من أجل الآخرين” (غسان تويني). تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية، باستثناء ما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي، وارد في كل الوثائق العربية. يوجز ذلك “إعلان بعبدا” الصادر عن طاولة الحوار في البند 12 وبالاجماع في 11/6/2016.
ربما تكون كل التأويلات للميثاقية مُتفرعة من عدم الالتزام بهذا المبدأ الثالث الذي يُحقق انتظام المؤسسات. إنه المصدر الأساسي للشرعية légitimité بالمعنى الاجتماعي في ديموقراطية تعددية. منبع الشرعية في مجتمع ميثاقي، وما ورد في مقدمة الدستور: “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. إدراك “نهائية الوطن” (البند) انتقالاً من الساحة… إلى الوطن.
على فرض التسليم بتجاوز المفهوم العلمي والتاريخي للميثاق ولما يُمكن وصفه بالميثاقي، وعلى فرض التسليم بإنشاء مزيج غير علمي لا يميّز بين ما هو ميثاقي وما هو تمثيل طائفي، هل يجوز إثارة ذرائع الميثاقية وعدم الميثاقية من قبل من يتخذ مواقف تنطوي على فرض قرارات ومواقف بدون مراعاة ديموقراطية الاعتراف بخيارات الآخرين وبنظام المجتمع الديموقراطي؟ من وسائل الفرض التعطيل ما لم يحصل إجماع مسبق بتبنّي موقف الجهة المعطِّلة.
حتى في الظروف العادية، عندما لا يكون ثمة خطر على البلد وبالتالي على الوطن والمواطنين، تسود قاعدة قانونية هي واجب اعتماد حسن النية وواجب الاستقامة. أسهب العلم والاجتهاد في شرح وتطبيق واجب الاستقامة إذ يُرفض تذرع الشخص بحجة هو من كان تسبّب بها. تجاوز تطبيق هذه القاعدة مجال المحاكمات والتحكيم وأصبحت القاعدة الأم التي أسست لعدة قواعد في القانون. سبق لمبادئ المجلة العثمانية أن نصت عن جوهرها، إذ قضت بأن “من سعى لنقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه”. يناقض هكذا موقف واجب الاستقامة لأنه لا يجوز فعل الشيء والمطالبة بعكسه ولا إيجاد واقع والانطلاق منه لإلزام الأخر بتبنّيه. طبيعة المواثيق كـ”تعهدات وطنية”، حسب تعبير ادمون رباط، ملازمة لحسن النية وواجب الاستقامة.
يزداد نقض واجب الاستقامة خطورة في الأزمات حيث الفقه والاجتهاد أوجدا قواعد لمواجهتها بغية تسيير عمل المؤسسات وتمكينها من تأمين الخدمة العامة. ولعل حلول فترة يمارس فيها مجلس الوزراء صلاحيات رئيس الجمهورية يُشكّل المثل النموذجي لواجب التقيد بشرف الوظيفة الدستورية تطبيقاً لواجب الاستقامة. النائب مُنتخب لمهام مُحددة وعلى رأسها واجب انتخاب رئيس للجمهورية ولا يمكنه القيام بعمل يطيل فترة الفراغ الرئاسي كأن يمتنع عمداً عن حضور جلسات الانتخاب. التغيب في هذه الحالة ليس حقاً دستورياً. المعطِّل والذي يلوم الغير لعدم انتخاب رئيس للجمهورية تطبق عليه قاعدة “المجلة” التي أشرنا اليها. وما هو حق في الظروف العادية في التخلف عن بعض الجلسات يعطى وصفاً مختلفاً في الأزمات حيث التغيب يوازي اعتداء على السلطات الدستورية لمنعها من ممارسة مهامها.
أما الوزير الذي هو جزء من مجلس يُمارس مهام رئيس الجمهورية فلا يُمكنه القيام عمداً بما يمنع مجلس الوزراء من تأدية واجباته الدستورية أو أن يستقيل. الاستقالة لا تعود حقاً في هذه الظروف بل هي تركٌ متعمد للمركز abandon de poste. بديهي القول ان الربّان لا يملك الحق في مغادرة السفينة التي تواجه خطر الغرق.
حسان تابت رفعت – بروفسور في جامعة القديس يوسف
انطوان مسرّة – عضو المجلس الدستوري
النهار