“نَحمل هذا الكنز في آنية من خزف” (٢ قورنتس ٤: ٧)
“الصوم هو بداية جديدة، هو طريق يقودنا إلى الهدف الأكيد الذي هو القيامة، أي انتصار يسوع المسيح على الموت. يدعوني هذا الزمن دعوة ملحَّة إلى التوبة. المسيحيون مدعوون إلى العودة إلى الله “بكل قلوبهم” (يوئيل ٢: ١٢)، فينفضوا عنهم كل فتور، وتتقوى صداقتهم مع الرب يسوع. يسوع هو الصديق الأمين الذي لا يتركنا أبدًا”. بهذه الكلمات البليغة بدأ البابا فرنسيس رسالته إلى المؤمنين في زمن الصوم.
منذ ١٥ تموز تسلمت إدارة الأبرشية بصفة مدبر رسولي. قضيت هذه الأشهر الماضية أتعلم، وأتجذر في ما هو واقعنا اليوم، أي في حياة البطريركية اللاتينية. مدة ١٧٠ سنة الماضية قامت البطريركية وما زالت تقوم بدور هام في حياة المسيحيين في الأرض المقدسة. رعايانا ومدارسنا ومؤسسات كثيرة غيرها قدمت الشيء الكثير لحياة المسيحيين في هذه البلاد، وقوّت الشهادة للمسيح ولقيامته من بين الأموات. ومع ذلك، الكل يعلم أن تعيين مدبر رسولي من خارج الإكليروس البطريركي كان قرارًا غير متوقع، وكان مفاجأة للكثيرين. وأدى إلى الاستنتاج أن هناك أمورًا ليست كلها على ما يرام. في الواقع كانت أخطاء أثرت في حياة البطريركية من الناحية المالية والإدارية، ولاسيما في ما يختص بالجامعة الأمريكية في مادبا. وأخفقنا في بعض المجالات المهمة، وقد لا نكون أكدنا بما فيه الكفاية على تحديد الأولويات في رسالتنا، أي التبشير بالإنجيل وتكريس أنفسنا للنشاطات الرعوية.
منذ شهر تموز التقيت الأساقفة والكهنة والرهبان والمؤمنين العلمانيين، وزرت أقسامًا عديدة من الأبرشية. ووجدت الشيء الإيجابي الكثير، والمشجع والباعث على الأمل. ولكن لاحظت أيضًا أن أمامنا مشاكل، هي كانت السبب في تعييني مدبرًا إلى أن يعين بطريرك جديد. هذه أوضاع يجب أن نواجهها بشجاعة وصراحة وحزم، بحب أخوي، وبالطبع بإيمان قوي في الرب يسوع المسيح الذي يهدينا. الأزمة أو المشاكل يمكن أن تكون سبب موت، ويمكن أن تكون بقوة الروح القدس، سبب حياة جديدة، وولادة جديدة في الروح، وسبب قيامة. هذا هو التزامنا وأملنا وصلاتنا.
أود أن أشارككم فرحي في زمن الصوم هذا الذي بدأناه هنا في البطريركية اللاتينية بطريقة معبرة جدًا. في عشية أربعاء الرماد، قررت عقد اجتماع لكل الكهنة الأبرشيين في البطريركية اللاتينية. شعرت أني مستعد أن أشارك الكهنة بعض أفكاري من هذه الأشهر الماضية وأن أصغي بعناية إلى اقتراحاتهم وآرائهم. اجتمع الكهنة مساء الاثنين ٢٧ شباط ويوم الثلاثاء ٢٨ شباط في بيت الزيارة لراهبات الوردية، في الفحيص، في الأردن. وركزنا بصورة خاصة على المواضيع التالية في حياة البطريركية: الكهنة وحياتهم ونشاطهم الرعوي، والمشاكل المالية والحلول الممكنة، وإعداد نظام داخلي لعملنا الإداري. ويمكن أن أؤكد لكم، أيها الإخوة والأخوات الأعزاء والمؤمنون في كل الرعايا، كنتم جميعًا حاضرين بطريقة أو بأخرى، في كل نقاشاتنا وتبادل الآراء في ما بيننا، بصعابكم وآلامكم وآمالكم.
أول فرح في هذا الزمن المقدس هو أن الأساقفة والكهنة الذين استطاعوا أن يأتوا أتوا، الشباب منهم والكبار، من الأردن، وفلسطين، وإسرائيل وحتى من الخليج. جاؤوا مشتاقين لأن يعرفوا، ليصغوا، وليتكلموا. قضينا يومين معًا في مناقشات معمَّقة وإيجابية حول بطريركيتنا الحبيبة، حول دعوتنا ورسالتنا، وأيضّا حول الأخطاء لتي أدت إلى الوضع المتأزّم الذي نحن فيه، ولا سيما الجانب المالي.
الفرح الثاني هو رؤية جميع الذين أتوا ملتزمين للعمل والنظر في هذه المشاكل، وراغبين أن يتخذوا الخطوات الضرورية التي تعيدنا إلى الطريق الصحيح. كان مؤثرًا سماع كاهن تكلم عاليًا وواضحًا يقول: “جاء الزمن لنعترف بمسؤوليتنا، كل واحد منا، ولنلزم أنفسنا ببداية جديدة”. قال آخر: “علينا أن نكتشف كيف نحوّل زمن الشدة إلى زمن نعمة”. أظن أنه كان يعني نعمة “البدايات الجديدة”، الوعد بالقيامة بعد الآلام والموت الذي يعيشه العديدون منا الآن. أمامنا عمل كثير. والآن هو زمن البداية، زمن الإصلاح، وإعادة البناء والتجديد في بعض مجالات الإدارة، وفي مجالات غيرها أيضًا. من بين الاستنتاجات الأخرى في الواقع قررنا أن نركز نظرنا في النشاطات الرعوية، وأن نفتح، مثلاً، مكاتب أبرشية جديدة للعمل الرعوي، التي تنسق وتوحد خدمتنا الرعوية لمختلف الرعايا.
كمدبّر رسوليّ، أعطيت الصلاحيات لأغير بعض الوقائع في مجالي المال والإدارة. ولكني عالم أيضًا أننا إن لم نعمل معًا لن نعيد إلى البطريركية كمال عافيتها. ليست هذه المرة الأولى التي علينا فيها أن نواجه مشاكل جدية في تاريخنا. بعون الله، استطعنا في الماضي أن نتغلب على الصعاب. اليوم، بعد يومين مع الأساقفة والكهنة، أنا أعود مليئًا بالأمل. الطريق أمامنا بلا شك صعبة، والتحديات كبيرة، والعقبات خطيرة. لكن، ثبت لي، في هذين اليومين، أن العمل معًا، والتركيز على رسالتنا التي هي خدمة المسيح في كنيسته، أمر ممكن. وبالعمل معًا سنتغلب أيضًا على صعاب اليوم. وشعرت أن الأساقفة والكهنة مستعدون لخوض المعركة وأن “يجاهدوا الجهاد الحسن” والسير إلى الأمام بشجاعة، مهما كانت الطريق صعبة. بعون الله وإرادتكم الصالحة، أبدأ زمن الصوم بشعور من الارتياح، ومن عرفان الجميل العميق لكم جميعاً، وأشعر بقوة مجددة أريد أن أشارككم إياها جميعًا.
في نهاية لقائنا، طلب الكهنة أن أشارككم جميعًا، بكل شفافية، صعوباتنا الراهنة، والتي أصبح الجميع يعرفها. ولكن أريد أن أعلمكم أيضًا عزمنا الأكيد لحل كل هذه المشاكل، بنعمة الله وبالالتزام الكامل من قبل جميعنا.
أسألكم أن تصلوا في زمن الصوم هذا، حتى نتمكن من العمل معا، أساقفة وكهنة، ورهبانًا وراهبات، ومؤمنين ومؤمنات علمانيين، شبابًا وبالغين ومسنين. مثل “الحياة الرسولية” لجماعة المؤمنين الأولى في القدس، نحن أيضًا نريد أن نكون “قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة” (أعمال ٤: ٣٢) واثقين أن ما بدأه الله قبل ١٧٠ سنة سيكمّله هو، ويكون لنا فيه سندًا.
زمن الصوم زمن توبة. نحن الأساقفة والكهنة في البطريركية، نحن أيضًا من عداد الخطأة الذين يسألون الله الرحمة ويطلبون نعمة التوبة. أخطاؤنا وأحكامنا واضحة أمام أعيننا، كما يقول صاحب المزمور في توبته أمام الله (مزمور٥١/٥٠: ٥). يجب أن نعترف أننا مثل “آنية من خزف”، مشقَّقة ومكسَّرة. أوكل إلينا الله أمورًا كثيرة، لكننا في ضعفنا البشري سمحنا بحدوث تلف كثير. نحن نعلم أن الله يستخدم آنية متكسرة وأدوات ضعيفة، بحسب تدبيره الخلاصي: “لأن الله الذي قال: أن يشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا، لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح. ولكن لنا هذا الكنز في أوان خزفية، ليكون فضل القوة لله لا منا. مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيّرين، لكن غير يائسين” (٢ قورنتس ٤: ٦–٨). ويمكن أن نكون أكيدين أن الكنز الذي نحمله سوف يسطع نوره، ولو أننا نحن آنية من خزف.
أيها الإخوة والأخوات، لنتّحد في الصلاة في زمن الصوم، ولنحزم أمرنا لنسير مع المسيح إلى القدس. سيكون الطريق صعبًا. ولكن دعوني أشارككم ثقتي بالله وبكم. إننا إن ثبتنا مع الله سوف نبلغ نحن أيضًا مجد القيامة. ليبارككم الله جميعًا في كل زمن الصوم هذا.
أليتيا