أخبرني أنه عاش حياته يساعد المحتاجين والفقراء وينشر المحبة في النفوس ويرفع من قيمة الإنسان تجاه أخيه الإنسان، ويدفعه للتحرر من الشرّ الذي يتملكه في الكثير من الأحيان ومن أهوائه التي تترصد له وتوقعه في الخطيئة. حين سمعتُ كلمة «شرّ» بدأت أفكاري الشريرة تراودني، تنطنط أمامي، وتسألني عن معناها؟ أليس كلّ ما نفكر فيه وما نفعله يحدّد شرّه أو خيره مفهومان لا ثالث لهما، الحياة والموت؟ فما يوصل إلى الموت هذه الحقيقه المجهولة نعتبره شرّا، وما يبقينا أحياء فهو خير؟ ماذا لو عُرّف الموت بأنه مكان جميل ورحب لا حروب فيه ولا فواتير، فهل سيبقى إنهاء حياة أحدهم حينها فعل شرّ؟
الطريق الطويل من بيروت الى برمانا حيث الكنيسة التي يعيش فيها المطران جورج خضر لم يكن طويلا، قصرّته أغنية «رباعيات الخيام» ورغبتي في الجلوس أمام رجل دين يقال عنه الكثير، وأهم ما فيه بالنسبة إلي أنه كاتب متعدد الثقافة، فالتعرف إليه ومحاورته ومحاججته ستكون شغفي المفضّل في مثل هذا الوقت، فكرت ربما أهتدي الى الصراط المستقيم انا الملحدة هاوية الخطيئة. صدحت أم كلثوم تقول: «لبست ثوب العيش لم استشر وحرت فيه بين شتى الفكر، فكيف أنضو الثوب عني لماذا جئت أين المفر؟».
استقبلني التسعيني الذي نذر حياته لخدمة يسوع المسيح ولعشقه وللإخلاص له، الكهل ذو الصحة الجيدة بالرغم من الشيخوخة الطاعنة بالترحاب والغزل (اذا هو ليس برجل دين عادي فكرت). الصبيّ الفقير (كما سمى نفسه) الذي ولد وترعرع في حارة النصارى في طرابلس لم يكن فقيرا بالفعل فهو ابن عائلة موفورة الحال ولكن الشعور الأقلوي الذي سكن النصارى المقيمين في مدينة مليئة بالمسلمين أشعره بأنه مع الفقراء ومنهم. اعتاد أهله وضعهم هذا، فحشروا أنفسهم جنبا إلى جنب حول الكنيسة وسمّوا مكانهم حارة النصارى. ذاكرته ذاكرة الجماعة الطيبة والمتواضعة والفقيرة. طفولته مزينة بمشاهد الساجدين الذين كان يراقبهم عبر نوافذ المساجد، والفقراء المنتشرين في أحياء كثيرة من مدينة طرابلس. «ولدتُ مريضاً في الأمعاء، وقال الأطباء لأمي إن هذا الطفل سيعيش بضعة أيام ولكني في التسعين من العمر وما زلت على قيد الحياة» قالها وضحكة طفل تحدّى القدر تزين وجهه. والده كان صائغا وأمّه ابنة صائغ، لم تربطهما علاقة حب «اذ لم يكن الحب ضروريا في تلك الأيام، فقط تخيلها زوجة جيدة وأما حنونا» ولكن جورج الصغير لم يشعر بحنانها فهمّها الوحيد كان العدل بين ثمانية أبناء، ولدان وست بنات. عاطفته لم تنمُ ضمن هذه العائلة بل كبرت وتعاظمت عبر الصداقة.
محامي الشيطان
درس الحقوق لدوافع إنسانية، أراد منها الدفاع عن الفقير والأرملة واليتيم والمعذبين في الأرض، وساعده على خياره هذا انه في تلك الأيام لم يكن توجد خيارات كثيرة أمام طالبي العلم، فإما الهندسة وإما الطبّ أو المحاماة، وبما انه صاحب ميول أدبية اختار الأخيرة. ولكنه قبل أن يصير محامي الشيطان (على حدّ تعبيره) ترك المهنة وسافر إلى فرنسا لدراسة اللاهوت، دفعه إلى خياره هذا أن يصير كاهناً، «حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة» التي كان أحد مؤسسيها. باريس كانت بالنسبة إليه أجمل مدينة في العالم، غير أنه لم يحب الشعب الفرنسي ولم يصادقه، هو الآتي من بلاد استعمرها الفرنسيون. يخبرني وقد راحت ملامحه الى مطارح يبست حدائقها، بأنه لا ينسى أبدا مشاركته في تظاهرة في باريس تنديدا باعتقال حكومة الاستقلال فقد أوشك حينها أن يقتل برصاص الشرطة.
الغرفة المليئة بالكتب والأوراق والجرائد وإطارات الصور (صور لقديسين لا أعرفهم) مطلّة على مشهد أخضر خلّاب وهادئ. يجلس كاتبنا بدلال على كنبة بسيطة الطراز. مرتديا ثوبا فضفاضا يبدو مرتاحا فوق جسده السمين. بطنه الكبير يهتز كلّما ضحك، لا أعرف لمَ حين التصقت نظراتي بيديه المنمشتين، ظننت للحظة أنهما لامرأة، ناعمتان ودودتان، تحملان كوب شاي لم تصنعاه. بدتا جديدتين لم تعرقا ولم تلوحهما الشمس ولم تتوها وسط خيارات الحياة، ولم تجبرا على فعل ولم تترددا وبرغم ذلك لهما بيت وسرير دافئ وطعام شهي وأتباع ومريدون. ماذا يفعل رجال الدين، فكرت، يزوجوننا؟ وهل نحتاج للإذن لنكون مع من نحب؟ يؤبنوننا؟ وهل نحتاج للابتهالات حين يموت الجسد؟ ماذا لو ينزلون الى الطريق، الى الحقول والى المصانع، ماذا لو يشاركون في اسقاط الأنظمة، في رفع شعارات المضطهدين، في المطالبة بمحاسبة المفسدين. ماذا لو يعيشون حياة الناس العاديين، يعانون من أجل خبزهم، ومن أجل دفع فواتيرهم، يذهبون الى عملهم يوميا ويحاولون بناء جنتهم هنا على الأرض بدلا من السماء!
عطر امرأة
من الواضح أنه كان شابا مثقفا ومتعلما وجميل المحيّا. ألم يحب في حياته امرأة؟ ألم يمارس هذا الحب؟ ألا يتسرب عطر المرأة، صوتها، جسدها المشتهى حتى عبر أكثر فجوات خياله إحكاما؟ الا يبعث هذا إن لم يكن على التشتت والكآبة فعلى الكبت الخطر؟ هو لا يخفي بأنه تعرض خلال حياته للإغراءات ولكن عشقه للمسيح وإيمانه ساعداه على التحمل والصمود. يهدّئ شكّي بقوله «انا ممسك ولست عفيفا». هو راعي الملحدين (كما يصف نفسه) هم أصدقاؤه وأحباؤه، هم أبناء الله الضالون الذين لا يعرفون بنوّتهم له، لكنه (الله) يحبهم بنفس الطريقة التي يحب بها المؤمنين. مأخد المطران جورج خضر، على الملحدين، انهم يعتمدون فقط على عقولهم والعقل يخطئ كأي ملكة من ملكات الانسان. يصرّ على فكرته كأنه يحاول إقناعي دون أن أحاججه «هم لا يعرفون ما معنى الحب الالهي، يريدون بعقلهم أن يبرهنوا وجود الله، والله هو الحب، والحب لا يبرهن، فهو إمّا أن يوجد فيك وتشعر به وإمّا أن لا يوجد». ماركسيّ الهوى (كما يصف نفسه ايضا) يؤمن بأن نقد كارل ماركس للنظام الرأسمالي المتوحش هو نقد صحيح. ويظن أن البشرية ستصل الى وقت تتصالح فيه مع الماركسية دون اقتباس إلحادها. فهمه لرأس المال أكد له أن كارل ماركس لا يهمه انكار وجود الله، وما إلحاده الا تأثر بمخلفات فلسفة القرن التاسع عشر حيث إن الملحدين كانوا كثرا وكانوا يتسلون بفكرة الله ويتلهّون عن الأشياء الأساسية في الحياة كتحرير الإنسان! ولكن هل قائل «الدين أفيون الشعوب» كان يتسلى مع رفاقه الشجعان، وأنه وبقوله هذا لم يساهم في تحرير الإنسان؟
أسأله متربصة: لو عاد المسيح يوما فهل سيمشي وراء الكنيسة؟ يجيب بصراحة أدهشتني: «لا أعتقد. لأن الكنيسة سقطت عبر التاريخ، أولا حين تنكرت للعلم ونبذت العلماء. وثانيا حين قصرت في الكثير من الأوقات عن محبة الإنسان في الواقع وعن خدمته الاجتماعية، وقصّرت في تحرير الشعوب من الاستعمار». يكمل مبتسما بأن معظم رجال الدين سيدانون في الآخرة على التقصير «وأنا أوّلهم». يبوح المطران بشفافية بأنه كان قادرا على فعل ثلاث مرات أكثر ممّا فعله في حياته، ولكنه تقاعس بسبب كسل أو تهامل أو تعب. أسأله: «وقفت الكنيسة ضد الحرب بالمطلق وحتى ضد دفاع الشعوب عن محتليها تحت شعار المحبة، ألم يدعُ المسيح للحرب في قوله الشهير «من لم يكن له سيف فليبع ثوبه وليشتر سيفا»؟. يختصر المطران خضر جوابه بأن كلام المسيح هو كلام شعري أعطى فيه للسيف معنى روحيا ونضاليا وليس معناه المادي أي الحديد او الفولاذ. لم أقتنع ولم أجادل.
التحرر من الأنا
المشهد في الخارج يزداد اخضرارا مع ازدياد أشعة الشمس، ووجنتاه تزدادان احمرارا كلما باح، حدقتاه الزرقاوان الواسعتان لا تتوقفان عن النظر، لا ترتاحان، أظنهما لا تغمضان حتى خلال النوم. بثقة يخبرني المطران بأن أخطاءه لا تُذكر فهناك مليون فعل لم يرتكبه، هو ما سرق مرة واحدة، وما احتال على احد، وما افترى على أحد، ولم يشتم ولم يكذب. حاول أن يكون حرّا من أناه ومن ذاته ويحاول أن يكون متواضعا، ويعطيني مثلا بأنه لا يشعر بالغرور ولا بالإغراء إذا أعجب أحدهم بنص كتبه ونشره، بل يشكر الله لأنه يستكتبه.
ميتروبوليت جبل لبنان للروم الأرثوذكس منذ عام 1970، جورج خضر ليس برجل دين فحسب بل هو كاتب منذ أكثر من ستين سنة. نشر نصوصه قبل جريدة «النهار» في صحيفة «لسان الحال»، الى جانب عدد من المجلات الأوروبية. آمن المطران خضر بالتلاقي المسيحي الإسلامي وعمل على هذا الحوار منذ أكثر من أربعين عاما. كان صديقا للسيد موسى الصدر، يقول: «أحببته لأنه لم يكن رجل سياسة، فهو لم يحب الزعماء في طائفته، بل كان الوحيد الذي نهض بالطائفة الشيعية بعدما كانت طائفة فقيرة، أكثر أبنائها من مزارعي التبغ وعمال المرفأ في بيروت، دفعهم الى الانتفاض على أوضاعهم المعيشية والسياسية، ما جعلهم منتجين ومثقفين ومتعلمّين». برأيه أن السيد موسى الصدر بتحريره البروليتاريا حرّر الإنسانية كلها، وبذلك يكون قد أخذ النموذج الماركسي واستعان بالشيعة بدل الشغيلة.
ناصر المطران (الكاتب) القضية الفلسطينية خلال الحرب الأهلية، بنشره مقالات وكتبا عن هذا الموضوع. عرّضه موقفه للخطر خلال الحرب. فقد هُدد من قبل مليشيات مسيحية وهرب الى طرابلس. يرى خضر بأن الخطأ الأول الذي ساهم في اشعال الحرب الأهلية هو الأطروحة المارونية والكتائبية آنذاك بأن الفلسطينين يريدون الاستيلاء على البلد ليكون بلدهم البديل. والخطأ الثاني ارتكبه السّنة حين اعتبروا أن الفلسطينيين هم جيش المسلمين، وسبب ذلك كان عدم قدرتهم على تشكيل ميليشيا فاستعانوا بالفلسطينيين ليحاربوا المسيحيين ولا سيما الموارنة وهذا فعل شائن. يقول: «غرّقونا بأفكار خاطئة لمدة خمس عشرة سنة، أفكار غير مرتكزة على علم سياسي حقيقي».
الحديث طال مع المطران الأبيض، أبيض الشعر والذقن والبشرة والثوب والقلب. كان سهلا عبوره، الأبواب فيه غير موصدة، وفهمه للآخر المختلف أمسك بيدي وأوصلني الى القلب. هناك تسكن أسئلة كثيرة والأجوبة فيها مسلّمة. لم أملّ أخباره وحكاياته. ختم بأسى بأن كل المشاكل التي نواجهها في بلد لا ينتج ودولة لا تقوم سببها ان اللبناني أسير الفردية ولا يملك الشعور بالجماعة وبالكاد يحب عائلته او قريته، وهو لا يعرف أن يكون مشاركا روحيا وعمليا وجهاديا ليبني وطنا مع بقية الناس، هو لا يملك فكرة الوطن على الإطلاق. «ايها اللبنانيون أحبوا بعضكم بعضا».
لوركا سبيتي
السفير الثقافي