كان بيته بمنازل كثيرة، في مكان ما بين عين كفاع وساحة القديس بطرس في روما. وحدها تلك المسافة تدل على مساحة العمر، المساحة الواسعة وسع العطاء المتدفق من النبع العالي، ذاك الذي نهل منه المطران أدمون فرحات وأرتوى منه طوال حياته. وفي ذلك البيت كان الضوء على المنارة ليضيء على كل من فيه بالكلمة، بالقدوة، بالصبر العالي، بسكون النفس الرضية، وفي ذلك المزيج الفريد من النقاء والصلابة.
بالإلتزام والإيمان والجهد حمل أدمون فرحات قضية. منذ يوحنا الثالث والعشرين الذي عينه أحد المسؤولين الإداريين في المجتمع الفاتيكاني عام 1962، الى بولس السادس الذي أكمل أعمال المجمع، الى يوحنا بولس الثاني الذي رفعه الى المرتبة الأسقفية وعينه سفيراً في دول شمالي افريقيا، الى بنيديكتوس السادس عشر، ثم الى البابا الحالي فرنسيس الذي عينه، بعد تقاعده، واعظاً في كاتدرائية القديس بطرس، للإفادة من خبرات قلّ ان تجمعت في شخص واحد. إذ من أقدر من تجربة اللبناني الأصيل ليضع فهمه للحوار في خدمة الكرسي الرسولي، في بلدان إسلامية مثل الجزائر وتونس وتركيا، في التقريب الواجب في عالم اليوم، تحقيقاً لرسالة الإنفتاح على الآخر وفق مفهوم العلاقات الفاتيكانية، ولكن أيضاً وفق مفهوم اللبناني لرسالة لبنان كما وصفها البابا القديس. وذلك قبل أن ينتقل الى مجالات أخرى في قلب أوروبا، في سلوفينيا ثم النمسا، اقرب الدول الأوروبية الى الفاتيكان.
إنه تمرس في الدوائر الفاتيكانية من القاعدة الى مرتفعات الهرم الكنيسي. فشهد عن قرب عملية صنع القرار والتوجهات في الكنيسة الجامعة. الكنيسة التي تضم ملياراً وثلاثمئة مليون نسمة من المؤمنين، وأدرك تأثيرها في العالم كله. ليس فقط على الصعيد المعنوي كمرجعية أولى، بل على الصعيد الديبلوماسي في عمل هادئ منزه عن المصالح في ما عدا ما يرجع الى قيم الإنسان ومناصرة القضايا العادلة. ولكن أيضاً على صعيد دور الكرسي الرسولي في العالم. بكون البابا رأس الكنيسة، هو الذي يعين أو يوافق على تعيين الأساقفة والكرادلة ورؤساء الكناس المتحدة معه في بلدان العالم كله.
عرف أدمون فرحات كل ذلك، من عمله الطويل في الأمانة العامة لسينودس الأساقفة، واتصالاته وصداقاته الواسعة، التي قدرت مواهب هذا الكاهن الذي استمد قوة إيمانه من رسوخ ارتباطه أولاً بالأرض والتراب، في تلك القرية الجبلية التي تبدو للزائر الذي يطل عليها من فوق، كرؤية تتموج بين الهضاب والإخضرار وطرق أهل الريف وصلابة قيمهم، وبخاصة في بيت موفور الإحترام في كل المنطقة. ففي روما، قلب أوروبا، تدرج ادمون فرحات وتقدم، كما في الكلام المقدس، بالعمر والنعمة، فقرأ وألف وكتب، باللغات المختلفة، والألمانية خاصة، الى جانب الفرنسية والإنكليزية والإيطالية واللاتينية، فضلاً عن العربية خصّ بها كتابه الأخير. إذ كان يلقي عظاته في مختلف تلك اللغات. فصادقه الكبار من أمراء الكنيسة ومن كرادلة لبوا دعواته الى بيته الأول والأحب في قريته اللبنانية، ومن صداقات مع كبار القادة الايطاليين أمثال جوليو اندريوني وغيره من المسؤولين. وقد وجدوا في خادم الكنيسة هذا مثالاً للفضائل التي جسدها كأفضل ما يكون التجسيد، مترفعاً زاهداً، نقياً، يذهب دائماً الى العمق، بنظرة ثاقبة سهلت له التوفيق بين قضايا وطنه وشؤون الشرق المضنية التي كان آخرها ما عذبه وأقلقه في وضع مسيحيي المنطقة وقضايا الكرسي الرسولي.
لأن خدمة الانسان كان هدفه الأول والأخير على نحو ما تعهد به منذ البدء، ونذر نفسه له. من خدمة الرب الى خدمة الإنسان، لم يتردد، لم يتراجع. ظل ناشطاً فاعلاً حتى أيامه الأخيرة بين الكاتدرائية وبيته المضياف في “فيا بورتا انجيليكا” في الفاتيكان، وفياً للمنازل في البيت الأكبر، حاملاً معه الوزنات المضاعفة والكنوز التي تنتظره في السماء.
داود الصايغ
النهار