هل تدري أيها الساكن في منطقة مار الياس في بيروت ماذا تعني كملة “مار”؟ وأنت أيها المقيم في سن الفيل، هل تعرف معنى المكان الذي تقيم فيه؟ وأنت أيها القاطن في ديك المحدي، هل تدري معنى اسم هذه البلدة التي تعيش فيها؟ هذه الأسماء، عند المعلم إيليا عيسى، الضالع في اللغة السريانية، ليست عربية، بل تحريف لأسماء سريانية وآرامية قديمة. فكلمة “مار” تعني “سيدي”، لا القديس الذي هو “قديشو” في السريانية، و”سن الفيل” هي “سان ثيوفيل”، أو القديس ثيوفيل، لا ذلك الحيوان الضخم الوديع، وأما “ديك المحدي”، فلا علاقة له بذكر الدجاج، لأن معناه المكان المبهج!
هل “تشقلبت” في ذهنك هذه المعاني أيها القارى الكريم؟ أظنها “تشقلبت”. هذه الكلمة (تشقلبت)، هي أيضاً من مئات الكلمات السريانية، التي يقول إيليا عيسى إن اللبنانيين يستعملونها في لغتهم المحكية، كما يستعملون كلمة “تعوق” أي تأخر، و”ست” أي السيدة، و”بحبوحة” التي تعني العيش الهنيء، و”الغندورة” الفتاة التي تسير بغنج ودلال، والأرض “البور”، التي بلا غلة، و”الزبون”، العميل، و”زوم” المرقة، و”زنار” الحزام، و”زاروب”، المكان المحصور، و”طنبور” وهي آلة طرب.
ليس هذا فقط! المعلم عيسى يقول أيضاً إن ما يظنه اللبنانيون جملاً “لبنانية”، هي سريانية صرف. معقول؟! أذهب إلى الرجل في منطقة مار الياس في الطرف الغربي من بيروت، فلا أسمع في داره القديمة إلا السريانية. يستقبلني بحفاوة، ويسألني كيف أحب قهوتي، فأجيب: أريدها مرة. تأتي “الخادمة” الأثيوبية فأسمعه يخاطبها بالسريانية. جاءت “المسكينة” إلى لبنان “العربي”، فإذا هي قد تعلمت “لغة المسيح”، التي لا يتكلمها إلا قليلون في لبنان والعالم! أتساءل: إذا كان المعلم عيسى يتكلم السريانية مع الصبية الأثيوبية، فلا بد أن تكون السريانية لغة البيت “الرسمية”. يصدق ظني حين أسمعه يتكلمها مع زوجته وأولاده، وهؤلاء أسماؤهم سريانية: سرجون، سنحريب، ونينوى، وكلهم في سن الشباب. أتساءل من جديد: إذا كانت “الخادمة” تعلمت السريانية، فلماذا لا أجرّب حظي، وأمخر مع المعلم إيليا، عباب “لغة المسيح”، ولغة موسى الذي يقول في التوراة: “آراميا تائهاً كان أبي؟”. أتساءل أيضاً: إذا كانت كلمة “قديشو” تعني قديس، كما يقول عيسى، فما هو معنى وادي قاديشا إذاً؟ وما معنى اسم الوادي الجميل في شمال لبنان، الذي يحمل اسم قنوبين؟ يشرح الرجل الذي ناف على الثمانين، معاني هذه الأسماء ويقول: “قاديشا يعني الوادي المقدس، وقنوبين تعني معقل النساك”. أسأله عن الفارق بين السريانية والآرامية، فيجيب: “هما واحدة، مزيج من لهجات الشعوب الأمورية والأكادية والبابلية والأشورية والكلدانية والكنعانية والفينيقية، التي كان اليهود يسمونهم “أرميوتا” أي الوثنيين. بقوا كذلك إلى يوم تنصروا فيه، وصاروا سرياناً، وكلمة سريان مشتقة من سوريا، الاسم الذي أطلقه اليونان على منطقة الهلال الخصيب”. أقول له: الراحل أنيس فريحة، كان وضع “معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية”، وبيّن أن معظمها من أصول آرامية وفينيقية وسريانية، فما الذي يمكنك أيها المعلم، أن تضيفه إلى معارفنا في هذا المجال؟ يقدم أبو سرجون إليَّ كتاباً من تأليفه، عنوانه “قاموس الألفاظ السريانية في العامية اللبنانية”، ويمسك قلماً حبره أزرق، ويكتب في الصفحة الأولى منه أسطر الإهداء باللغة السريانية، فألمح اسمي بأحرف لا أفهمها، وينتابني شعور ساذج سريع، بأنني قد أكون أنا أيضاً من أصول آرامية! أقرأ في الصفحة الأولى تصديراً بقلم جورج صليبا، مطران جبل لبنان، وفيه أن اسم لبنان آرامي، أو سرياني، وأن السريانية كانت اللغة السائدة عموماً في لبنان، وأقرأ عيسى في مقدمة قاموسه، “أن المحكية اللبنانية مزيج من السريانية والآرامية ولغة العرب، وأن الآرامية كانت في أواسط القرن السابع الميلادي، لغة التخاطب في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، إلى أن حلت العربية مكانها”، “لكن الكثير الكثير من التعابير والكلمات الآرامية بقيت قيد التداول إلى يومنا هذا”. لا يرى إيليا عيسى في هذه “الحقيقة” غضاً من شأن العربية التي يجيدها، أو مساً بالروح الوطنية أو الحمية القومية، ويقول إن خصوصيات أي حضارة جزء من الحضارة العالمية، وليس عيباً أن تكون المحكية اللبنانية قد تأثرت بالآرامية. المشكلة في رأيه، أن هناك من ينكر، ويريد طمس العلم والحقيقة، “لكن الذين يعرفون الآرامية يدركون مدى التأثير السرياني في العامية اللبنانية”.
أعطنا براهين حسية يا “مار” إيليا: “في كتابي مئات الكلمات التي أصلها سرياني، أو آرامي، مثل: يتفرج، أي ينظر، وبخش الإبرة أي ثقب الإبرة، ويبحش أي يحفر، ورجل عينو بلقة (نسونجي)، وهناك أيضاً كلمات مثل يبقبق أي يغلي، ويبرم أي يفتل، والبقال أي بائع الخضر، والبتول أي العذراء، وكلمات مثل جوارب، جبنة، جرن، قربان، جرس، جورة أي حفرة، ثم أفعال كثيرة مثل جرصنا، أي قلل من شأننا”.
أسأله عن معنى اسم مارون “القديس”، وعن اللغة التي كان يتكلم بها فيجيب: “مارون اسم سرياني قديم، وهو تصغير لكلمة مورو، وتعني السيد، وكان هذا القديس يتكلم السريانية الغربية، بلهجة أهل الرها، أي أورفا التي في تركيا”. يعمل المعلم عيسى على وضع قاموس للكلمات السريانية أو الآرامية في اللغة العربية، وقد جمع حتى الآن نحو 2500 كلمة. المعجم سيكون الأول من نوعه، وسيكون موضع جدال من غير شك، وخصوصاً لجهة الكلمات الدينية التي يعدّها النحاة العرب عربية أصيلة! مهما يكن، تبقى مسألة “الأصل” موضع خلاف، لأن من اللغويين من يرى العربية اللغة الأم، ويردّ الكلمات الآرامية أو السريانية، إلى أصول عربية، وهناك من يرى أن الآرامية هي الأم، وأن العرب الذين سكنوا “العربة” أو الصحراء العربية، كانوا آراميين، أو بدو الآراميين، كما سمّاهم جرجي زيدان. بعض المؤرخين العرب، ينسبون العربية إلى يعرب بن قحطان، ويقولون إنه من نسل إسماعيل، في حين يقول آخرون، إنه أحد الملوك التبابعة الذين كانوا في اليمن، لكن الكل مجمع على أن يعرب، أول من تكلم العربية. هم متفقون أيضاً على أن يعرب جد العرب، في إشارة إلى الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري، الذي خاطب قومه بالقول:
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب/ أبينا فصرتم معربين ذوي نفر
وكنتم قديماً ما بكم غير عجمة/ كلام وكنتم كالبهائم في القفر
لكن المعلم إيليا يرى السريانية هي الأصل، والدليل في رأيه أن العرب لم تكن لهم أبجدية، وأنهم أخذوا الأبجدية التي كتبوا بها عن السريانية، “أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت”، المؤلفة من 22 حرفاً. غير أن بعض المؤرخين وعلماء اللغة يرون غير ما يراه، على أساس تشابه اللغات القديمة، والعلاقات التجارية التي كانت بين الجزيرة العربية، وسوريا الطبيعية، أو الهلال الخصيب، كما سمّاه المؤرخ برستد. منهم من يشير إلى أن عرب الجزيرة العربية، استعملوا الأبجدية النبطية المنحدرة من الآرامية. هناك أيضاً من يعتبر العربية سابقة للآرامية، منهم مطران دمشق السرياني الراحل إقليمس يوسف داود، واضع كتاب “اللمعة الشهية نحو اللغة السريانية”. يذهب داود إلى أبعد من ذلك، فيقول في مقدمة كتابه “وإذا نحن ذكرنا العربية بين اللغات، فلأن العربية، هي أشرف اللغات السامية من حيث قدمهن وغناهن”.
أعود مع المعلم إيليا، إلى شيء أقل تعقيداً، على رغم أن فهمه قد استغلق عليَّ، وأسأله: لماذا يستخدم اللبنانيون في لغتهم المحكية، الكلمة الآرامية “شبق”، بمعنى ضرب، في حين تذكر الكتب أن “المسيح” على الصليب خاطب “ربّه” بالآرامية قائلاً: “إيليا إيليا لما شبقتاني؟”، وترجمتها “إلهي إلهي لماذا تركتني”، بدلاً من “إلهي إلهي لماذا ضربتني؟”، فيجيب:” فعل شبق معناه ترك، واللبنانيون حرّفوه، فصار عندهم بمعنى ضرب”!
أترك المعلم إيليا، أو ملفونو إيليا، كما يقال في السريانية، وأنا غير مرتاح لتفسيره فعل “شبق” بمعنى ترك، وأكثر ميلاً إلى تبنّي معنى “ضرب”، كما في العامية اللبنانية، لأن “الابن” الوحيد المعذب، والمدمّى على الصليب، لا بد أن يخاطب “أباه” الذي في السموات بالقول: “لماذا ضربتني يا أبتاه؟”… لا “لماذا تركتني يا أبتاه؟”!
رؤوف قبيسي / النهار