تكثر المعموديّات في موسم عيد “الظهور الإلهيّ” المعروف لدى العامّة باسم “عيد الغطاس”، الذي يحتفل فيه المسيحيّون بذكرى معموديّة السيّد المسيح من يوحنّا المعمدان في نهر الأردنّ. فمعظم المؤمنين ينتظرون مجيء هذه الموسم ليعمّدوا أطفالهم، لاعتقادهم بارتباط معموديّة أطفالهم بمعموديّة المسيح. غير أنّ اللاهوت المسيحيّ، بدءًا من الكتاب المقدّس، فيقول كلامًا آخر. فالمسيحيّون لا يعتمدون لأنّ المسيح اعتمد، بل يعتمدون لأنّ المسيح مات وقام من بين الأموات.
ثمّة فارق بين معموديّة المسيح من يوحنّا التي كانت طقسًا تطهيريًّا قابلاً للتكرار مرّات عدّة، لذلك كان يوحنّا واضحًا حين قال لتلاميذه: “أنا عمّدتكم بالماء، وأمّا هو فيعمّدكم بالروح القدس” (مرقس 1، 8). ويسوع نفسه قال لنيقوديموس المعلّم: “الحقّ الحقّ أقول لك: ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله ما لم يولد من الماء والروح. فمولود الجسد جسد، ومولود الروح روح. لا تتعجّب من قولي لك: يجب عليكم أن تولدوا ثانية” (يوحنّا 3، 5-7).
لا ريب في أنّ القدّيس بولس الرسول هو أوّل مَن تحدّث عن المعموديّة بصفتها اشتراكًا في موت المسيح وقيامته. ففي رسالته إلى أهل رومية يقول: “أوَتجهلون أنّنا نحن الذين اعتمدنا جميعًا في المسيح يسوع، في موته اعتمدنا. فدُفنّا معه في الموت بالمعموديّة حتّى كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب كذلك نسلك نحن أيضًا في جدّة الحياة. فإذا كنّا اتّحدنا به في موتٍ يشبه موته، نكون أيضًا على شبه قيامته” (رومية 6، 3-5).
يتّفق التراث المسيحيّ، إذًا، على القول بأنّ المعموديّة هي اشتراك في موت المسيح وقيامته، لهذا سمّيت بالولادة الثانية. وفي ذلك يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+407): “بتغطيس الرأس في الماء يُدفن الإنسان العتيق، ويغرق بالكلّيّة في القعر ويختفي تمامًا. وعندما يُرفع الرأس، يحلّ الإنسان الجديد محلّ القديم”. كما يؤكّد الذهبيّ الفم هذا الأمر بقوله: “كما هو الصليب والقبر للمسيح، كذلك هي المعموديّة لنا”.
أمّا القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+397) فيقول: “المعموديّة هي كالموت في نزولك في الماء، وكالقيامة عند خروجك من الماء. كما أنّ قيامة الربّ، وفق تفسير بولس الرسول، هي إعادة للولادة، فالخروج من جرن المعموديّة هو إعادة للولادة”. ويذهب القدّيس كيرلّس الأورشليميّ (+386) عندما يقول: “وكما أنّ المسيح الذي حمل جميع خطايا العالم، قد مات ليقيمكم في البرّ بسحقه الخطيئة، تنزلون أنتم في الماء، وتُدفنون فيها، كما دُفن هو في قبر، لتنهضوا وتسلكوا في جدّة الحياة”. وجدّة الحياة هي أن يحيا الإنسان في حضرة الله الدائمة، في التوبة الدائمة.
الأمانة للمعموديّة تستوجب الابتعاد عن الخطيئة، في ذلك يقول ثيوذوريطوس القورشيّ (+466): “يعلّمنا سرّ المعموديّة أن نبتعد عن الخطيئة. فالمعموديّة هي على شبه موت السيّد. فيها نصبح شركاء في موت المسيح وقيامته. لذا علينا أن نحيا حياة جديدة”. أمّا إذا سقط الإنسان في الخطيئة فلا تعاد معموديّته، بل التوبة هي بمثابة المعموديّة الدائمة. فالإنسان لا يموت إلاّ مرّة واحدة، لذلك لا يُعمّد إلاّ مرّة واحدة.
يقدّم لنا ثيوذوريطس شهادة قيّمة عن ممارسة باكرة لمعموديّة الأطفال، التي ترفضها بعض الفرق الإنجيليّة، فيقول: “إذا كان معنى المعموديّة ينحصر بغفران الخطايا، فلماذا نعمّد الأطفال المولودين حديثًا الذين لم يعرفوا الخطيئة بعد؟ لكنّ سرّ المعموديّة لا ينحصر في ذلك، بل يتعدّاه إلى عطايا أكمل وأعظم. ففي المعموديّة وعود المباهج المستقبلة. إنّها رمز القيامة الآتية، وشركة مع آلام السيّد وقيامته. إنّها وشاح الخلاص، وزيت البهجة، ووشاح النور، بالأحرى هي النور نفسه”.
جورج مسّوح