الملائكة “لا اجنحة لديهم… يشبهون اكثر أشعة شمس ينعكس نورها عبر إناء من البلور…لا يمكن رؤيتهم، لكننا نشعر بوجودهم”. لم يكن من شأن تصريحات مماثلة لكاهن كاثوليكي ايطالي يعرّف عن نفسه بأنه “خبير بالملائكة والشياطين”، سوى ان تفتح الشهية على اسئلة واستيضاحات لاعادة اكتشاف تلك “الكائنات السموية”. بأجنحة او من بدونها. اليقين عند الديانات السموية، انهم كانوا ولا يزالون، جاؤوا وتكلموا، شُوهِدوا وكُتِب عنهم، ولديهم مهمات ووظائف.
كان “ملاكاً من السماء من تراءى” للمسيح في بستان الزيتون “يشدد عزيمته” (لوقا 22/43)، عشية آلامه. وكانا اثنين، “رجلين حضرا” النسوة عند قبر المسيح، وكانت “عليهما ثياب براقة”، وتحدثا اليهن. “انه ليس ههنا، بل قام…”(لوقا 24/4-7). وفي انجيل يوحنا (20/12-13)، رأت مريم المجدلية “ملاكين بثياب بيض جالسَين حيث وضع جثمان يسوع، احدهما عند الرأس، والآخر عند القدمين. فقالا لها: لماذا تبكين ايتها المرأة؟”.
وقبل ذلك، كانوا ملائكة من “دنوا من يسوع واخذوا يخدمونه”(متى 4/11)، بعدما قهر الشيطان في البرية. والملاك جبرائيل هو من بشّر زكريا بمولد يوحنا المعمدان (لوقا 1/11)، ومريم العذراء بمولد يسوع (لوقا 1/26). و”ملاك الرب” هو الذي “تراءى ليوسف في الحلم” واعلمه بمولد يسوع (متى 1/8)، قبل ان يوجهه ليذهب الى مصر (متى 2/13) ثم العودة منها الى الناصرة. و”ملاك الرب” ايضا هو من حضر الرعاة في البرية، مبشرا بولادة “المخلص” (لوقا 2/10). يمكن القول ان الملائكة رافقوا يسوع من ميلاده حتى قيامته. ولكن قبل ذلك بكثير، الى ايام ابرهيم، يرجع اثرهم، بما يجعل تجلياتهم عديدة ومتنوعة في الكتاب المقدس، مثيرة للاهتمام.
يوم تكلّم الكاهن الايطالي “الخبير” رنزو لافاتوري في مؤتمر على “الفن وتجسيد الملائكة” اقيم في قصر القنصلية في روما (ك1 2013)، “كان منتقدا بعض الشيء للفنون التي تتناول الملائكة، لكونها لا تجسدهم فعليا. “فهم لا يملكون اجنحة، ولا يشبهون اطفالا جميلين” (و.ص.ف). ولكن كيف يبدو شكل الملائكة؟ ومن اين جاء تقليد ان لهم اجنحة؟ ومن اين استوحى الفنانون عبر العصور تجسيدهم باجنحة او كاولاد جميلين وغيرها من الصور؟
“الملائكة هم مخلوقات الله”، يقول استاذ مادة الكتاب المقدس في كليات اللاهوت الكاثوليكية الاب انطوان عوكر الانطوني، “مخلوقات روحية، غير منظورة، غير جسدية، غير محدودة في زمان او مكان، اي ان لها قدرات خاصة، وقد تتجلى باشكال ملموسة. وطبيعتها تلك لا يمكن حصرها، اي انها مرنة”. في الكتاب المقدس، “لا يتكلم اي نص من النصوص على خلقهم. غير انهم يشكلون عادة العالم العلوي، العالم الفائق الطبيعة الذي يربط عالم الله بعالم البشر” (*).
الذكر الاول لكلمة ملاك “اتى في الحضارة المسينية في اليونان القديمة، قبل اكثر من 3 آلاف عام”، وفقا للمؤرخ فاليريو ماسيمو مانفريدي (و.ص.ف). في الاصل، “اللفظة هي اسم جنس تدلّ على وظيفة المرسل في مهمة معينة. في العربية، تعود الى “لأك”، أرسل. والملاك في العبرية هو مرسل الله”(*). وفي رسالة بولس الى العبرانيين (1/14)، “الملائكة ارواح مكلفون بالخدمة، يُرسَلون من اجل الذين يرثون الخلاص”.
في التجليات، يبدو الملائكة في شكل بشري، و”تصرفهم يشبه تصرف البشر”: يتحدثون معهم، يلمسونهم، يأخذون بيدهم، يشاركونهم في مأكلهم (تكوين 18/8)”(*). ويذكّر عوكر باختبار ابرهيم مع زواره “الرجال الثلاثة” (تكوين 18) الذين استضافهم، وتحادثوا معه وتناولوا طعامه. “من هنا كانت الفكرة ان الملائكة يمكن ان يتجلوا باشكال بشرية، وانهم تحادثوا مع ابرهيم”، ومع غيره ايضا. والامثلة عديدة في الكتاب.
غير ان النبي اشعيا (6) “هو الذي نفح اولاً تقليد ان للملائكة اجنحة”. “في السنة التي رأيت فيها الملك عزيا، رأيت السيد جالسا على عرش عال رفيع، واذياله تملأ الهيكل. من فوقه سرافون قائمون، ستة اجنحة لكل واحد، باثنين يستر وجهه وباثنين يستر رجليه وباثنين يطير. وكان هذا ينادي ذاك ويقول: قدوس قدوس قدوس، رب القوات، الارض كلها مملوءة من مجده”.
ويشرح عوكر: “من اشعيا، ولد التقليد الذي يجعل الطيران من تجليات الملاك، مع اجنحة له. وفي سفر الرؤيا ايضا، تجلت ملائكة باجنحة”. وبتعابير الكتاب: “كانوا اربعة احياء وسط العرش وحوله… ولكل منها ستة اجنحة رُصِّعت بالعيون من حولها ومن داخلها”(رؤيا 4/8). والطيران من الصفات ايضا: “رأيت ملاكا آخر يطير في كبد السماء، معه بشارة ابدية يبشر بها المقيمين في الارض…” (رؤيا 14/6).
في خلاصة الامر، “نعم، لا اجنحة للملائكة عموما، كمخلوقات روحية”، يقول عوكر، وان “تجلت فئة منهم باجنحة”، وتحديدا من يسمون “الكروبيم” و”السارافيم”. اما جنسهم، فلا طائلة من اثارته، “لأن السؤال عنه خطأ اصلا. فالملائكة ليسوا كائنات جسدية بمعنى انهم يتوالدون. وبطرح السؤال عن جنسهم، نكون نطرحه على تجلياتهم المتنوعة، وليس على كيانهم الخاص. وكيانهم الخاص روحي، وبالتالي لا جنس لهم”. بالنسبة اليه، “الرمزية التي للملاك هي الابقى، “وبها، لم تعد تهم الاجنحة او عدمها. فما يرمز اليه الملاك هو حضور الله، انه مرسل منه، وينقل كلامه”.
(*)”المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم”- الخوري بولس الفغالي- المكتبة البولسية وجمعية الكتاب المقدس.
هالة حمصي / النهار