مع مطلع كل عام جديد، تدعو جمعية “أبساد” القيّمة على تشجيع حماية المواقع الطبيعية والمباني القديمة، إلى أمسية راقية من الموسيقى والغناء الأوبرالي في المتحف الوطني، تجلّت هذه السنة بفوح فتي ومنعش من خمسة عازفين وأربعة أصوات محفورة حفراً في مختارات من آيات أوبرالية عالمية.
بعد كلمة رئيسة “أبساد” السيّدة ريّا الداعوق نوّهت فيها بإنجازات الجمعية في العام الفائت، كان النشيد الوطني. ويا ليته كان كما نحب أن يكون، صورة عن وطن نشتاقه، لا كما ومن دون أي مبالاة، صدح في بهو المتحف، مقطّعاً، مهشّما، مشلّعا، كبيرق مزّقته الرياح، مهمّشاً عن رسالته الوطنيّة، وليس من مسؤولٍ عن إرسال الصوت، يهرع لإيقاف هذه المهزلة. هذا هو لبنان الذي علينا مكرهين أن نعتاده.
التعويض عن الإهمال الذي بات العملة التي نتعامل بها لنزيد انحطاطاً، كان في القيمة الموسيقيّة والليريكية المشغولة لدى العازفين والمغنّين، بفن إحترافي رفيع. ففي مستهل الأمسية، طغى جوّ رومنطيقي، شاعري بأداء ماريو راعي على الكمان الأول ووائل سمعان على الكمان الثاني ورانيا كلاّب على الفيولا وجنا سمعان على الشيللو وأرمن كيتشيك على البيانو، إفتتاحية أوبرا “كافالييرا روستيكانا” لبييترو ماسكاني. العازفون بتقنياتهم العالية والشغف الصادر من القلب، بثّوا شاعرية وعزاء. من هذه البداية كانت أمسية مجلوّة بأصوات دخلت في أجواء الأوبرا العالمية، برهافة واختبار أكاديمي، فأعطت الحضور من وليمة كبار الأوبراليين، مذاقات تنوّعت خاماتها، بين التينور إيليّا فرنسيس والباريتون تيدي نصر والسوبرانو كورين متني والميزو – سوبرانو إليان سعادة.
صوتان غرّيدان، لكورين متني وإليان سعاده، أشعلا الفرح في “ديو” ليلة جميلة، ليلة حب، لأوفنباخ. منهما، كانت البداية لهذا السحر الليريكي الذي مع كل مؤدٍّ ودور كان الترقي إلى حيث الفن والثقافة تأشيرتان تؤكّدان ديمومة وطن.
في الدور الثاني كان للحب بين عاشقين، قصيدته. الأرملة الطروب لفرانز لوبار، تمثّلت غناء وإغراء بصوت إليان سعادة والواقع في حبها، التينور إيليّا فرنسيس. فهل يحضر إيليّا فرنسيس وليمة النغم من دون أن يطربنا مع تيدي نصر بأغنية “أو صولي ميّو”؟
الأصوات التي قامت عليها أمسية “ابساد” شقّت مع الموسيقيين باب سلام إلى قلوبنا. جريئة إيليان سعادة في دور كارمن، ممتلئة حسناً في أدائها “الحب عصفور بوهيمي” من “أوبرا كارمن” لبيزيه. ولأن المختارات من منبع الحب، فإن الحوارات المغناة كانت حميمة، مغزولة بين عاشق ومعشوقته، ولا سيما بعودة التينور مع السوبرانو في فقرة أخرى من الأرملة الطروب.
إستراحة قصيرة للمغنين سمحت لأوركسترا الحجرة بأن تعزف لحن “بللاديو” لكارل جنكنز، بعده أنشد الثنائي كورين متني وإليان سعادة “ديو الأزهار” لليو ديليبس.
القائمة مفعمة برهافة الأدوار، المختارة بلياقة، والمفصّلة على خامات أوبرالية، ماهرة في إغواء سمعنا. “غرانادا” هي الآية التي يختزنها إيليّا فرنسيس في حنجرته المتقلّبة بفن وشغف بين تينور وباريتون. “توريادور” بصوت تيدي نصر عودة إلى صميم “أوبرا كارمن”. “أيا طفلي العزيز” جرح شفاف انطلق من حنجرة كورين متني، مؤثراً ، حنوناً. إلى الختام مع الأصوات الأربعة في “ليبيامو”، إفتتاحية لا ترافياتا. فكم تمنّينا لو يطول السهر مع المغنّين الأربعة والأوركسترا المرافقة للصوت وتفاعلاته. هنا في هذا العمل الباهر كان للوطن بعض من معانيه العالمية.
مي منسى
النهار