بولس الخوري فيلسوفٌ لبنانيٌّ وقف نفسه لخدمة الفلسفة منذ تفتّح وعيه، فسلخ معظم أوقاته في القراءة والبحث والتفكير والتأليف. وفي ما خلا التعليم، لم يضطلع بأيّ ضرب من ضروب المسؤوليّة الأكاديميّة أو الإداريّة. عاش من أجل الفلسفة وفي ظلّها، منكفئًا عن ضوضاء العالم إلى صومعة الفكر الحرّ حتّى التحم وجودُه التحامًا بالفلسفة. قد يكون من بين الفلاسفة اللبنانيّين وأساتذة الفلسفة اللبنانيّين اللامعين هو الوحيد الذي تماهى كيانُه كلُّه هو والتفكّر الفلسفيّ. وما عمق الإنتاج وغزارته سوى الدليل على أنّه تفرّغ تفرّغًا مطلقًا لهذه الصناعة الفكريّة المضنية. ذلك أنّ تبتّله الطوعيّ وإعراضه عن مسؤوليّات الإدارة أتاحا له أن يتبحّر في معارف الفكر الفلسفيّ وأن يكتسب منها ما يؤهّله لبناء أنظومة فكريّة متماسكة.
هو من مواليد ديردغيّا في جنوب لبنان (1921). درس الفلسفة واللاهوت في إكليريكيّة القدّيسة حنّة (الصلاحيّة) في القدس قبل الاستقلال اللبنانيّ. ثمّ نال في مدرسة الآداب العليا (ليون – بيروت) إجازة في الآداب (فلسفة) في العام 1952. وحاز من بعدها شهادة دكتوراه دولة في الآداب (فرع الاستشراق) من الجامعة الملكيّة في لايدن (هولندا) في العام 1965. درّس الفلسفة في حقبات وجيزة متقطّعة في بضع من الجامعات اللبنانيّة، منها جامعة الروح القدس (الكسليك) في العامين 1972 و1973، وجامعة القدّيس يوسف (بيروت)، ومعهد القدّيس بولس للفلسفة واللاهوت (حريصا). له ما يربو على الستّين مؤلَّفًا في فلسفة الخيبة، وفي الفكر العربيّ المعاصر، وفي المجادلة اللاهوتيّة بين المسيحيّين والمسلمين (القرن الثامن – القرن الثاني عشر)، وفي مواضيع فلسفيّة ودينيّة واجتماعيّة شتّى. له نظريّة فلسفيّة خاصّة في الاستفسار عن استحالة التطابق بين الواقع والمعنى، وفي إدراك مقصد الإنسان إلى المطلق، وفي استجلاء موقع العامل الثقافيّ في بناء الظاهرة الدينيّة، وفي تصوّر ثقافةٍ عربيّة مواتية تكون عربيّةَ الانتماء (الأصالة) وحديثة التطلّب (المعاصَرة). ومع أنّه ظلّ مغمورًا في ما بين أهله في لبنان، إلاّ أنّ صيته العلميّ ذاع في الأوساط العلميّة الأوروبّيّة، ولا سيّما الألمانيّة، بفضل ما نشره له في ألمانيا شقيقُه، عالم الإسلاميّات الشهير عادل تيودور الخوري، من أبحاث رفيعة المستوى في مسائل الحوار المسيحيّ الإسلاميّ.
بولس الخوري هو أيضًا من الرعيل اللبنانيّ الأوّل الذي تحسّس في الخمسينات من القرن العشرين ضرورة التفكّر الفلسفيّ الرصين في نطاق الثقافة العربيّة. وإنّي لا أتورّع البتّة عن إدراج اسمه في قائمة كبار الفلاسفة العرب المعاصرين، ولئن أهملته دوائرُ الفكر الفلسفيّ العربيّ المعاصر لأسباب شتّى. منها أوّلًا ماضيه الدينيّ الإكليروسيّ الكهنوتيّ الكاثوليكيّ. ومنها ثانيًا كتابته باللغة الفرنسيّة، علاوةً على بعض الكتابات المتأخّرة باللغة العربيّة. ومنها ثالثًا طبعه المتواضع المنحجب عن الأضواء. ومنها رابعًا إعراضه عن التعليم الجامعيّ المنتظم وتنقّله الدائم بين لبنان وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا، قبل أن تستعمره الشيخوخةُ ويقف على عتبة الوداع. الحقيقة أنّه اعتنى بمشكلات العالم العربيّ اعتناءً مباشرًا، فأحصاها وحلّلها، وأنشأ لها سياقًا معرفيًّا مواتيًا، واقترح حلًّا عقلانيًّا لمعالجة أشدّ المعضلات إرباكًا للفكر العربيّ، عنيتُ بها معضلة التوفيق بين الأصالة (التراث) والحداثة.
أمّا المجتمع اللبنانيّ، فعاين تفتّح فكره واختمار رؤيته الفلسفيّة على مشارف الحرب الأهليّة (1975). فإذا به يحار في تصنيفه واستخدامه، على نحو ما جرت العادة في إبّان الحرب اللبنانيّة في تصنيف المفكّرين واستثمار فكرهم استثمارًا إيديولوجيًّا. فهو فيلسوفٌ مسيحيُّ النشأة، لكنّه يساريُّ المنزع، علمانيُّ التوجّه، كونيّ الإنسانيّة. فلا الأوساط الثقافيّة المسيحيّة اليمينيّة تجرّأت فاقتبلته في معاهدها وجامعاتها، ولا الأوساط الثقافيّة الإسلاميّة، العروبيّة منها واليساريّة، ارتضت أن تستضيفه خوفًا من المنحى النقديّ الجذريّ الذي تنطوي عليه كتاباتُه التي تفتضح جميع ضروب التستّر الأيديولوجيّ في تناول مسائل القوميّات والاشتراكيّات والإسلاميّات. ومع ذلك، كان هو يُلهم في خفر عظيم واتّضاع مذهل كوكبةً من أساتذة الفلسفة والمفكّرين والباحثين في العلوم الإنسانيّة يأتون إليه للاستشارة والاستنارة، فيحظون عنده بالضيافة الفكريّة الراقية وبالاعتناء الشخصيّ الرقيق.
لم يعرف المجتمع اللبنانيّ والمجتمعات العربيّة بولس الخوري معرفةً تليق بمقامه الفكريّ الرفيع. فاللبنانيّون سمعوا سماعًا عن فلاسفة لبنانيّين معاصرين من أمثال شارل مالك ورينه حبشي وكمال يوسف الحاج وناصيف نصّار. وهم فلاسفةٌ أصليون اشتهروا أوّلًا بعمق تناولهم لحقائق الوجود الإنسانيّ، واشتهروا ثانيًا بإطلالتهم الأكاديميّة والاجتماعيّة والإعلاميّة والسياسيّة. وهي الإطلالة التي زهد بولس الخوري فيها لأسباب شتّى. ثمّة فلاسفةٌ لبنانيّون آخرون مغمورون ينبغي إظهارهم والإفصاح عن إسهاماتهم الفلسفيّة الغنيّة. وهذا ما أنوي إنجازه في كتاب فلسفيّ تأريخيّ تصحبني في إعداده كوكبةٌ من أساتذة الفلسفة في لبنان. أمّا في العالم العربيّ، فالفلاسفة اللبنانيّون المعاصرون، ما خلا قلّة نادرة منهم، وفي مقدّمتهم ناصيف نصّار، قلّما يحظون باهتمام الباحثين واعتناء كلّيّات العلوم الإنسانيّة في الجامعات العربيّة. ولا شكّ في أنّ هذا الإهمال مرتبطٌ بأسباب تتخطّى هويّة هؤلاء الفلاسفة ومقامهم المعرفيّ. ما يعنيني في هذا المقام أن أظهر مبلغ الإسهام الفلسفيّ الأصلي الذي أتى به بولس الخوري، وهو اليوم يكابد آلام الشيخوخة من على مشارف السادسة والتسعين من عمره، تحفّ به كوكبةٌ من ملائكة المحبّة في جماعة “رسالة حياة”.
النهار