يقسم المسيحيّون كتابهم المقدّس إلى جزأين: العهد القديم والعهد لجديد. غير أنّ معظمهم يؤمنون بأنّ ثمّة تفاوتًا ما بين العهدين. فالعهد الجديد “نسخ” العهد القديم، أي أنّ المسيحيّة تعتبر أنّ العهد القديم، بعد مجيء السيّد المسيح، قد أصبحت مكانته ثانويّة، وإنْ أبقت عليه ضمن إطار الكتاب المقدّس.
اعتبرت المسيحيّة أنّ المسيح هو القدوة الوحيدة التي ينبغي للمؤمنين أن يحتذوها، أمّا أنبياء العهد القديم وشخصيّاته فليسوا قدوة إلاّ بمقدار ما تنطبق أقوالهم وأفعالهم مع تعاليم المسيح وأفعاله. فإذا أخذنا، على سبيل المثال، النبيّ إيليّا، يسعنا القول بأنّه لا يمكن التمثّل به في قتله كهنة البعل الوثنيّين، فيما يمكننا التمثّل به في توبته إلى الله وغيرته على الإيمان.
كما اعتبرت المسيحيّة أنّ العهد القديم يمهّد لمجيء المسيح، وبخاصّة عبر كتب النبوءات التي تشير إلى مجيء المخلّص الذي يفدي العالم. ومن الطبيعيّ أن ينتهي دور العهد القديم، وأن ينتهي عصر الأنبياء مع مجيء المسيح الذي به تحقّقت كلّ النبوءات. مع شروق المسيح الشمس، احتجبت الكواكب كلّها والأقمار كلّها… وليس من نور سوى نوره.
بعد الأقباط، خراف يسوع المسيح، الذين تمّ ذبحهم على أيدي الذئاب المفترسة، وبعد طرد الأشوريّين من الحسكة والموصل، والاعتداء على المسيحيّين في “الدولة الإسلاميّة في العراق والشام”… انتقد بعض المسلمين ممّن يدّعون الاعتدال المسيحيّين الذين كتبوا عن مأساة أبناء دينهم في ظلّ هذه الدولة الباغية. هؤلاء المسلمون تغافلوا عن الواقع الراهن ولجأوا إلى سجالات هذيانيّة وسفسطائيّة، وكأنّهم يبرّرون للسفاحين أفعالهم الكريهة. هربوا من الواقع واستحضروا من التاريخ الحملات الصليبيّة وبعض آيات العهد القديم لإقناع قارئيهم أنّ المسيحيّة تبرّر العنف هي أيضًا!
إنّه لمن الظلم أن يتمّ استحضار الحملات الصليبيّة في سياق الحديث عن المسيحيّة الشرقيّة. فالمسيحيّون الشرقيّون عانوا من الحملات الصليبيّة (التي أسماها المسلمون بحملات الفرنجة) التي غزت شرقنا بحجّة “الدفاع عن المسيحيّين والمسيحيّة في وجه الاضطهادات والعذابات التي سبّبها الخلفاء والسلاطين والأمراء المسلمون لأبناء المسيحيّة الشرقيّة، أو لمنعهم الحجّاج الغربيّين من الوصول إلى القدس”، على حدّ زعمهم. يجمع المؤرّخون على القول إنّ قادة الحروب الصليبيّة قد استغلّوا العامل الدينيّ لتبرير حروبهم تلك، ذلك أنّ ثمّة أسبابًا أخرى، اقتصاديّة وتجاريّة وغيرها، دفعتهم إلى شنّ تلك الحروب، وبخاصّة أنّ المسيحيّة الشرقيّة قد استُهدفت كما استُهدف المسلمون.
ثمّ هل الانتقام من الصليبيّين يكون بذبح المسيحيّين الشرقيّين وبتعريضهم للإبادة؟ لقد طرد صلاح الدين الصليبيّين من القدس عام 1187. والقدس اليوم محتلّة من الصهاينة. يتناساها المسلمون لأنّهم مشغولون بالقتال فيما بينهم، سنّة وشيعة، تكفيريّون ومكفَّرون… لهذا السبب يدفع أبناء الأقلّيّات الدينيّة، ما عدا اليهود، مع المسلمين الثمن من دمائهم وحضورهم. أين صلاح الدين يأتينا اليوم لتحرير القدس من الصليبيّين الجدد؟ لا حياة لـمَن تنادي.
أمّا العهد الجديد الذي نسخ العهد القديم فليس فيه آية واحدة تبدأ بفعل “قتل” بصيغة الأمر، لا “اقتلوا” ولا “قاتلوا”. وليس فيه أيّ دعوة للغزو أو لشنّ حروب مقدّسة… ولا يسع أحدًا أن يبرّر الأعمال العنفيّة بالاستناد إلى الإنجيل المقدّس، كتاب المسيحيّين، وبخاصّة أعمال الغزو والقتل والذبح والعمليات الانتحاريّة والرجم والتهجير وسبي النساء.
ليبانون فايلز