يجنح معظم رجال الدين، مسيحيّين ومسلمين، إلى التلفيق حين يحاولون إنكار الخلافات العقائديّة ما بين الديانات، أو حين يحاولون التأكيد بأنّ الديانات إنّما هي في الواقع ديانة واحدة. وغالبًا ما يتمّ ذلك حين يمزجون ما بين الخطاب الدينيّ العقائديّ والخطاب الوطنيّ الجامع، وبخاصّة في أزمنة الحروب والفتن والمحن.
من البديهيّ القول، وعلى منهج “فسّر الماء بعد الجهد بالماء”، إنّ الديانات ليست ديانة واحدة، والدليل الساطع كالشمس في النهار أنّ هناك ديانات عديدة، وليس قطعًا ديانة واحدة. إذًا، لا بدّ لـصاحب الخطاب الوطنيّ من تجاوز الاختلاف الدينيّ إلى الاكتفاء بالميدان الذي يريد أن يصول ويجول فيه. غير أنّه يستطيع أن يستلهم من قيم إيمانه ودينه ما يشاء من دون أن يضطرّ إلى البحث في الديانات الأخرى عمّا يظنّه أنّه مشترك، فيقع في ما ينبغي أن يتجنّبه، أي في التلفيق.
ليس عيبًا أن نختلف في الشأن الدينيّ، بل العيب يكمن في الانزلاق إلى خطاب “وطنيّ” تلفيقيّ يبعدنا عن التنوّع الحقيقيّ الذي يدعونا إلى قبول اختلافنا مع الآخر، وأنّ هذا الاختلاف لا يمنعنا من احترام هذا الآخر في إيمانه وعباداته وتقاليده. فالمطلوب، كي نحيا معًا، ليس تقاربًا إنشائيًّا يجعلنا جميعًا بلا هويّة أصيلة، بل المطلوب أفعال نستوحيها من القيم التي يجدها كلّ منّا في كتبه وعقائده وصلواته وتراثه الحيّ، وفي رؤيته للإنسان ولدوره في الكون.
نحن لا نشكّك في صدق مَن ينزلقون إلى هذا النوع من التلفيق، ولا في نيّاتهم أو مقاصدهم الخيّرة. ولا ريب في أنّهم ينشدون من خطابهم السلام والوئام والعيش الطيّب ما بين مواطنيهم. لكنّنا لا نستطيع أن نقبل بعقد رابط ما بين المواطنة والانتماء الدينيّ الواحد، إذ ليس من شروط الوحدة الوطنيّة الوحدة في الإيمان، فإذا انتفت الوحدة الإيمانيّة تنتفي الوحدة الوطنيّة. من هنا ضرورة الفصل ما بين المواطنة والانتماء الدينيّ، وبخاصّة لدى مَن يسعون إلى الفصل ما بين الدين والدولة، ولدى الداعين إلى الدولة المدنيّة.
كما أثبت هذا الخطاب التلفيقيّ أنّ الجمع ما بين الوحدتين، الوطنيّة والدينيّة، لا يجدي نفعًا، ولا يبني قاعدة راسخة للمواطنة، إذ يتبدّل بتبدّل الظروف والسياقات السياسيّة. فالمواطنة تقوم على المساواة ما بين أبناء الوطن الواحد، وعلى المساواة في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الانتماء الدينيّ للمواطنين. وما دور الديانات سوى هداية المؤمنين إلى خدمة الوطن والإنسان، من دون اعتبار الإيمان شرطًا للمواطنة الصالحة. الفصل، إذًا، ما بين الانتماء الدينيّ والانتماء الوطنيّ واجب من أجل مواطنة سليمة وقويمة. فثمّة غير مؤمنين وغير متديّنين هم مواطنون صالحون، ويفوقون المؤمنين والمتديّنين في محبّة الوطن والذود عنه وعن أبنائه.
الاختلاف الدينيّ غنًى للمجتمعات، لذا ينبغي إبقاؤه في الإطار الدينيّ وعدم زجّه في الشؤون السياسيّة أو الوطنيّة. من هنا ضرورة الإشارة إلى أنّ الاختلاف الدينيّ لا يعني عدم محبّة المتديّنين بعضهم بعضًا. فالمحبّة لا تعني التلفيق في العقائد. المحبّة لا تعني انعدام الصدق، ولا الصدق يعني انعدام المحبّة. فهل يدرك المبادرون إلى إنكار الخلافات الدينيّة أنّهم، بذا، لا يصدقون ولا يمارسون المحبّة الحقّ؟
الوسوم :الوحدة الوطنيّة والتلفيق الدينيّ بقلم الأب جورج مسّوح