في البَدء كان الرَّق والبرديّ. يصنع الورق من الخِرق والخشب. ودشن ظهوره عصر الثورات.
اختراع صيني
ينسب اختراع الورق من زمن بعيد إلى كاي لوان، الذي كان موظفا كبيرا في بلاط أسرة هان، في القرن الأول الميلادي. ولكن في العام 1986، أثبت اكتشاف خريطة جغرافية في مقبرة بالقرب من تيانجي (الصين) وجود الورق في القرن الثاني قبل الميلاد! ولئن لم يتصوّر كاي لوان لا المادة ولا سنَد الكتابة، إلاّ أنه استطاع تحسين جودة العجين بإضافة الألياف المنسوجة إلى صنعها. من قَبل، كانت الأوراق تُصنع من ألياف نباتية أو خشب مبشور وألياف من الخيزران ولحاء التوت. وقد ساعدت قِطع الخِرق أو الحبال المنقوعة في الماء، كاي لوان على إنتاج سنَد أشدّ رقّة ومتانة، وتركيبًا أكثر ملاءمة للكتابة. اختراع ثوري، لكنه مُفرِط في التبسيط. وهل ثمة في الواقع ما هو أسهل من صنع الورق؟ عند غمرها في الماء، تلتصق الألياف لوحدها بعضُها ببعض، دون إضافة أي مادة. وبمجرد تكتّلها وتجفيفها، تصبح ورقة يمكن الكتابة عليها. 105 بعد الميلاد، أوصي باستخدام الكتان والقنب بصورة خاصة. ظل فن صناعة الورق هذا صينيًا ويابانيًا حتى القرن الثامن قبل أن يصل الى العرب.
دُروب الورق
في العام 751، استولى العباسيون على سمرقند وأسروا صنّاع الورق الصينيين، الذين فقدوا احتكارًا دام مئات السنين. تم إنشاء مصنع للورق في بغداد عام 793. عرفته مصر في القرن التاسع، إلاّ أن انتاجه لم يبدأ قبل القرن العاشر. تلى الورق العربي مثيله الصيني المصنوع من ألياف نباتية. استعمل الورّاقون العرب الرَّث، وتزوّدوا بنباتات الكتان والقنب المحلية. بعد تبييض الألياف وتنسيلها يجري هرسُها. تلك العملية، التي تتم يدويًا أو بمطرقة آلية في الصين، تتطلب تدريجيًا العودة الى رحى يعمل بالطاقة البشرية ثم الحيوانية. نشأ عن بداية المكننة تلك مطاحن للورق في شمال إفريقيا ثم في أوروبا. من القرن العاشر إلى الثاني عشر، واصلت صناعة الورق مآثرها على إيقاع الفتوحات العربية، حتى صقلية التي أصبحت معقلًا لتجارة الورق باتجاه الشمال. فأُدخلت الى فرنسا عام 1189. وفي إيطاليا، بدأت صناعة الورق عام 1230 في مطاحن استغنت عن الطاقة البشرية ولكنها استخدمت الطاقة الإيدروليكية (تعمل بضغط الماء) والكتان كمادّة أوّلية.
إزدهار الطباعة
تطورت التقنيات، لكن نمو صناعة الورق ظل بطيئًا في أوروبا. ومع إطلالة العام 1440، أحدث اختراع الطباعة بالحروف المنفصلة (التي تُجمع واحدًا واحدا) من قبل يوهانس غوتنبِرغ في ألمانيا ثورة في عالم الكتابة وطبع بطابعه صعود صناعة الورق. وباستهلال الأزمة الحديثة، التقى الورق والكتاب، ولمّا يفترقان.
منذ ذلك الوقت يشهد إنتاج الورق إنتعاشا غير مسبوق بصفته ركيزة نشر الأفكار، ونقل المعرفة والتعبيرعن الصراعات السياسية والاجتماعية. في القرن السابع عشر، أنتج صناع الورق في العاصمة الفرسية أعلى وجه التقدير ما بين 500000 و 1500000 ورقة يوميًا لتلبية احتياجات عمال المطابع. ومع ذلك، إذا كانت فرص تصريفه هائلة، بقى الورق باهظ الثمن. امبراطوريات ورقية نشأت وانطلقت في سباق من أجل الابتكار على النطاق الأوروبي. في عام 1673، طوّر الهولنديون أسطوانة التنسيل التي أتاحت تطوير آلة الورق في نهاية القرن الثامن عشر.
آلة صنع الورق
عام 1798 قام لويس نيكولا روبير، كبير موظفي شركة تصنيع الورق، بتسجيل براءة اختراع لـ “آلة صنع الورق بمقاييس غير معهودة”. ومن الآن فصاعدا بات الورق يخرج على بكَرة. ولعدم توافر التمويل، جرى استئناف وتحسين الخطط في إنكلترا.
أوراق خشبية
بشكل موازِ جرى العمل على إيجاد بدائل للخِرق، التي ظلت لعدة قرون مادة الورق الأولية. ولأكثر من ألف عام، اختلط تاريخ الورق والخرق، لدرجة أنه سمّي “ورق الكَتّان”. الرَّث مادة نادرة ومعقدة يتنقل لمّامو الخِرق من منزل إلى منزل لجمع الأقمشة القديمة والملابس المستعملة. منذ القرن التاسع عشر، تفاقم النقص في الخرق، وفرضت نفسها الحاجة إلى العثور على مواد خام جديدة أكثر وَفرة وأرخص تكلفة. هذا الوضع قد تناوله الأديب الفرنسي بلزاك من خلال روايته Les Illusions perdues (الأوهام الضائعة)، التي نشرت عام 1843. دافيد سيشار، مطبعي متمرن في باريس، إستشعر تضخم أسعار الخِرق وتخيل ابتكار ورق من القصب. يقول: “إذا استطعنا صنع ورق رخيص بجودة تعادل مثيله في الصين، فسنخفف من وزن وسُمك الكتب بأكثر من النصف. وسيهبط وزن مجلّد لفولتير مطبوع على ورق فرنسي قضيم (بالضاد)، يزن مائتان وخمسون رطلاً، الى خمسين على الورق الصيني. وهذا، بالطبع، انتصار كبير”. وقد جرت عدة محاولات باستخدام نبات القراص والسرخس والجنجل (حشيشة الدينار) والذرة وحتى القش. محاولات لن تصبح قاطعة قبل منتصف القرن التاسع عشر. في العام 1844، أمكن حائك تحقيق حلم بطل بلزاك وسجّل براءة اختراع لتحضير العجين الخشبي، الذي ندين به للفيزيائي René Antoine de Réaumur الذي نشر في العام 1719 بحثًا حول دبّور الورق، الذي يستخدم ألياف الخشب لبناء عش “بوَرق جِدّ دقيق”. وقال: “إذا استطعنا الحصول على ألياف شبيهة لتلك التي تستعملها الدبابير الأمريكية لصنع أوراقها، عندها يمكننا ان ننتج أكثر الأوراق بياضًا “. جعل اكتشاف الخشب، وهو مادة وفيرة وغير مكلفة، من الممكن ارتقاب إنتاج ضخم. الكيمياء لم تتأخر في الإهتمام باكتشاف السليلوز. فقد أثبت عالم الكيمياء الفرنسي أنسيلم باين، علميًا أن جميع الخلايا النباتية تحتوي على مادة بيضاء وليفية، متطابقة كيميائيًا مع قطن الخرق: السليلوز، الذي يمكن استخراجه من الخشب لصنع الورق.
في نهاية القرن التاسع عشر، بات إنتاج الورق يجري على نطاق واسع. وأتاحت الآلات الجديدة زيادة السرعة والقدرة الإنتاجية. منذ ذلك الحين ومع الإنتاج الرخيص ظهرت تطبيقات جديدة.
استعمالات الورق الجديدة
إقتصر معظم الإنتاج الورقي لما يقرب من أربعة قرون على الورق، المنفذ الرئيس للصناعة المخصصة لتجارة الكتب والصحف. وجاءت صناعة المواد الغذائية ومنتجاتها التي تحتاج الى توضيب مخرجاً مهماً لصناعة الورق التي أضافت الكرتون للتغليف. وظهر الورق المقوّى والكرتون المتموّج، وكذلك منتجات النظافة. ومع ذلك يبقى الورق خير صديق للكلمات. كما ساهم الطبع بالأفست والورق الرخيص في ترويج وإضفاء الطابع الديمقراطي على الصحافة وفي ولادة الملصق الإعلاني والدوريات المصوّرة. ومع بداية القرن العشرين، أصبحت صناعة الورق صناعة ثقيلة. في العام 1931، طوّر السويدي آرنو أسبلوند طريقة للحصول على عجينة آلية من خلال مُصفّ (جهاز لتكرير معجون الورق) إستخدم صناعيًا في الأعوام 1956-1960.
ألورق في القرن الواحد والعشرين
القرص الرقمي أو الصحيفة الورقية، كتاب الجيب أوالكتاب الإلكتروني، الاستخدامات لا تتنافى مع بعضها البعض، فهي مترابطة. ثم ان الورق ليس ضد الرقمي، بل معه. لقد دخلنا عصر ورق التسلية. وها ان الورق موجود اليوم في كل مكان. لم تضع الثورة الرقمية حداً للورق: فالمعلوماتية الدقيقة والإنترنت لم يقللا من الحاجة إليه. على العكس من ذلك، لا يزال استهلاك ورق الرسم كبيرا بسبب تكاثر مصادر المعلومات. لذا فإن الأمر متروك لنا لإدارته بشكل مستدام، دون إهداره والعمل على فرزه!
*تعليق على الصورة: أقدم قطعة ورق عثرعليها حتى الآن، هي جزء من خريطة جغرافية تم اكتشافها عام 1986 في فانغماتان (شمال شرق الصين)
د.ايلي مخول