التوعية هي عملية تسير إلى إكساب الشخص وعيًا حول قضية بعينها؛ وتبصيره بجوانبها؛ ومن هذا المنطلق تهدف التوعية إلى التوجيه والإرشاد للتزود بالمعرفة والخبرة؛ عبر معرفة ماهيّة الشيء وطبيعته وواقعيته… فلا تأتي التوعية إلا عندما نحرص على عملية التثقيف التي تقوﻱ مستوانا المعرفي؛ لنكون قادرين على التفكير والتطوير والإبداع للتقدم إلى ما هو قدام.
التثقيف الذاتي يعني أن يكون لنا برنامج يومي للقراءة والمطالعة والتفتيش بمداومة؛ لأن للتثقيف قيمة عالية؛ تزيدنا وعيًا لنعرف أنفسنا ونعرف النعمة؛ ونفهم زماننا وعدونا إبليس… نعي الأصول والفصول في كل أدوات وروافد التثقيف التي تبنينا وتزيد وقودنا الروحي والفكرﻱ؛ لننشط متطورين في صقل هويتنا القبطية وتكوينها التاريخي والليتورجي والعقيدﻱ مع تدقيقها (دخول عالم الدقة والحرفنة والتخصص) للانطلاق إلى الإنجاز والتميز.
لا شك أن التثقيف يقودنا نحو التوعية التي تمكِّننا من قراءة حياتنا برؤية مميزة، وتنقلنا من عالم إلى عالم، نستشف فيها بعين الروح الالهي الأبهىَ من كل عين الجسد، فخير لنا أن نمتلك عين معرفة لا تقوي خشبة الجهالة أن تسقط فيها؛ لأننا كمسيحيين مدعوون للسلوك في جدة الحياة وفي ثبات حياة الخليقة الجديدة بجدة الروح، والله وحده هو الوحيد الذﻱ يقيم الميت لجدة الحياة؛ ولنوع مختلف من الحياة المستنيرة المستقيمة المتبصرة؛ المبنية على تفتيش الكتب التي نجد لنا فيها حياة أبدية، متتبعين كل شيء من الأول بتدقيق؛ لنعرف صحة الكلام ونفهم الكتب والكلمة المكروز بها بالروح القدس.
فالمادة الخام موجودة في جميع الكلمات التي تكلم بها الله؛ إذا سمعنا وحفظنا عهدها؛ نكون له خاصة من بين جميع الشعوب (خر ١٩ : ٥)، وهي ملائمة لكل زمان ومكان، وهي لنا عون (أعطاهم الناموس عونًا)؛ وهي مؤدبنا؛ وقد أُعطيت لنا كمؤدب كما لأطفال صغار (غل ٣ : ٢٤)، وكل من يسعى ويدرس ويجتهد يصير فصيحًا مقتدرًا في الكتب؛ خبيرًا في طرق الرب (أع ٢٥ : ١٨)؛ لأنه أيه منفعة للمخلوق إن كان لا يمكنه أن يعرف خالقه؟! وكيف نكون مخلوقات عاقلة إن لم يكن لدينا معرفة بالكلمة وعقل الآب الذﻱ به قد نلنا عطية وجودنا. فتثقيفنا الروحي يجعلنا نميز الأمور المتخالفة، وكلمة الله إن استقرت في أعماق نفوسنا تُشعل سراجنا بالنور الإلهي وبالحياة (يو ٦ : ٦٣)، ونفس (الكلمة) بها خلق العالمين، وهي الواسطة المميزة عند الله للتخبير عنه والتعريف به وبأعماله.
عدم المعرفة يساوﻱ الهلاك (هلك شعبي من عدم المعرفة) (هو ٤ : ٦).. فالمعرفة المسيحية معرفة اختبارية لله ولمشيئته، ومهمة الكلمة أنها تعلِّم، ومهمة العقل أنه ينير الذهن، والمسيح أتى إلى العالم ليعلم هذه المعرفة وهذا الحق … من يقبله يستقبل البصيرة ويأخذ النور؛ ويعرف الله والإنسان كليهما حسنًا؛ لكنها لا تتوقف عند المعرفة النظرية بل تتخطاها إلى معرفة الحياة أو معرفة المحبة والشركة والذهن المتجدد. لقد كان الآباء الكنسيون في الكنيسة الأولى من العلماء والفلاسفة المثقفين الذين عملوا وعلموا وحفظوا التقليد الصحيح للتعليم المبارك الممتد إليهم من الرسل أنفسهم. الابن يتسلم من أبيه البذار الرسولية، أما الذﻱ يزدرﻱ بالتقليد وبالمعرفة لا يعود يُحسب من أولاد الله.
فبالانطلاق من الكتاب المقدس؛ كتاب الكتب؛ نقبل كل ما يحدث لنا كأنه مرسل من الله؛ عالمين أنه لا شيء يتم بدونه، وبدون الكتابات ذات المنبع الرسولي اليقيني. يعيبنا الكسل العقلي الذﻱ يحُول دون معرفتنا بأمر خلاصنا، ويحُول دون بنائنا الروحي والكتابي والكنسي والعقيدﻱ والليتورجي والثقافي، فنجنح إلى الضحالة والخواء والتفاهة العدمية؛ لكن الروح القدس يعلمنا ويرشدنا، وهو لا يعطينا بمكيال العقل، (ومن هو كفوء لهذه الأمور) (٢ كو ٢ : ١٦)، بل بالثقة في القادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جدًا مما نطلب أو نفتكر؛ بحسب القوة التي تعمل فينا (أف ٣ : ٢٠).
لذلك التثقيف والوعي بالمعرفة الإنسانية ليس بعيدًا عن مجال عمل الكلمة اللوغوس، فهو ينير الطريق لكي نتقدم في معرفتنا بالله؛ وهي التي تساعد على التقوي الحقيقية، وهي أيضًا تمهيد وتدريب لكل الذين يصلون إلى الإيمان عن طريق البراهين العقلية. معيننا هو الله الذﻱ في البدء أعطى الإعلانات ويدعونا جهرًا للخلاص، وهو المعلم الذﻱ منه نتثقف ونعي ونتلقىَ التعليم والمعرفة الحقيقية التي تنمو حسب قانون الكنيسة، عندما تتطور الحياة الإنسانية نفسها، تصل إلى الفهم والإدراك القائم على الشركة والاتحاد بالله. المسيحي الناضج (مثقف) يتدرب عقليًا على التفكير وتفتيش الكتب، ليجد معاني الحياة المخبأة في كنوز المخابئ؛ والتي لا يمكن الوصول إليها إلا بالبحث الشاق.. وهذا المسيحي وحده هو الذﻱ يعيش أغوار غنىَ مسيحيته المتسع، ويصعد المصاعد ليحيا مع المسيح على الجبل؛ لأننا لا نعرف لكي نريد أن نعرف فقط؛ بل لنصل إلى خاتمة المعرفة التي هي تذوق الحياة الأبدية عن طريق المشاهدة الروحية.