تعبير الحق هو تعبير استعلاني عن المسيح، وهو يعني الأمانة والاستقامة والصدق… والمسيح هو الحق الحقيقي؛ جوهر الوجود والحياة؛ الصادق الأمين؛ وفيه استعلان كامل الحق؛ الذي ليس فيه لا غش ولا تدليس ولا تزييف ولا هوىَ ولا خطية… هذا الحق يستقر فينا ويقدسنا في حقه، يحررنا لأن كلامه حق… وبهذه المشيئة نتحد بالحق لنتقدس.
أحكامه حق وكلماته حق… يعضد بالحق؛ ويرشد بالحق؛ ويقضي بالحق؛ ويمنطق بالحق؛ ويفرح ويُسر وينطق ويوصي بالحق، لأنه إله حق من إله حق… الحق طريقه ومسلكه وسبله وفعله وفهمه وشريعته وحفظه وطاعته وثباته… وهو يدعونا لاقتناء الحق Αλήθεια (الأليثيا) ؛ والإذعان لاتباع صورة الحق المستقيم.
والكنيسة هي مستودع هذا الحق؛ والحق الكنسي هو الذي يحفظ الزرع الروحي كي لا يفنى. قد يظن البعض أن القانون ضد الحرية (حرية الروح)؛ لكن المعادلة هنا ملتبسة؛ لأن المحبة هي تكميل الوصايا وليست إلغاءًا لها.
لذلك كان العمل بالقوانين الكنسية التنظيمية داخل دوائر الكنيسة منذ التأسيس والإنشاء، كي تعمل في وحدة الروح لكن في تعددية المواهب… كلٌ على قدر طاقته ووزناته، فتصب جميعها في وحدة ومحبة وشركة الجسد الواحد غير المنقسم.
هذا الحق الكنسي يقودنا في حرية إيجابية؛ جوهرها البناء لا الهدم؛ القاعدة لا الاستثناء؛ التجميع لا التفريق؛ القوة لا الضعف والتخاذل…. كل واحد لا يُرضي نفسه ولا يطلب ما لنفسه؛ بل يحمل معه الجميع للسلام والبنيان، لأننا إذا نهشنا بعضنا البعض وتخاصمنا؛ لن ننمو ولن نزداد؛ بل سنفنى؛ ولن ندرك ما أدركنا المسيح لأجله… وتحُول عداوتنا دون حصولنا على غنى وبركات الكمال المسيحي في السعي نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع.
لذلك كل إغفال للحق القانوني الكنسي يفكك الجماعة المسيحية، فعندما تظهر الخصومات والخلافات والأطماع؛ لا بد أن يُفعَّل القانون؛ وإليه وحده نحتكم من أجل حفظ الكيان الوجودي؛ وذلك بتطبيقه نصًا وروحًا من غير مماحكات؛ لأن ملكنا ومعلمنا ابتدأ أولاً أن يعمل وحينئذ علم من دون انتقائية، وما ابتدأ يسوع ان يعمله؛ علّم به؛ لأجل هذا مَنْ يعمل ويعلم يُدعَى عظيمًا في ملكوت السموات… هكذا عاش الآباء؛ عملوا بأقوالهم وتكلموا بأعمالهم؛ متعاهدين الشعب؛ لأن أسقفهم أيضًا هو المسيح؛ لذا صاروا هم أساقفة حسنًا لشعب الله.
الحق الكنسي هو الذي يؤسس أصول علم الرعاية؛ من حيث فهم وتطبيق روح النظام الكنسي وحكمته؛ خلال تفاعل العقيدة مع الواقع المعاصر، كتدبير الله الحي منذ البداية؛ وهي ذات الحصيلة المتراكمة على مدى الأجيال؛ التي تربط الكنيسة ببعديها الأفقي والرأسي؛ ويصورها في علاقتها مع الرأس ومع الأعضاء؛ لبيان الأداء والمسئوليات الوظيفية في التطبيق العملي لكل أحد.
لكن هذا الحق الكنسي يبقى حبرًا على ورق؛ وتنظيرًا وأوراقًا مكتوبة ما لم نعشه ونمارسه (نفعِّله)؛ لا بطريقة مجتزئة انتقائية أو بآراء فردية؛ بل برضائية وبنفس واحدة كجسد واحد؛ ننقل الوديعة التي تسلمناها مرة من القديسين؛ لأننا نحن الوعاء الذي تستقر فيه رسالة الله؛ وإلا أصبحت مُعطلة أو عُرضة للتأويل والتوظيف وفقًا للأهواء والأمزجة. وكل محاولة للعدول عن هذا المنهج؛ تشكك في حفظنا لما أؤتمنا عليه. لأن التدوين جاء ليسجل الوديعة وليحفظ الحق الكنسي من غير شائبة. تعليمًا طاهرًا حافظًا لأوامر مخلصنا؛ متفقًا مع صوته الحلو المملوء مجدًا؛ عبر رسله وخلفائهم الأولين.
صوته الإلهي هذا دعانا أن نبتعد عن محبة النصيب الأكبر ونهرب من الطغيان الباطل والتشامخ ومن المتكآت الأولى… لنُثبّت السلامة المتزعزعة ونرد المتفرقين غير ساعين للأنصبة المضاعفة؛ كما سلك مخلصنا الذي كتبنا في السموات. كنيسة الحق العظيمة الأمينة المُزيّنة العزيزة عنده؛ والتي تعلن الحق وتتمسك بالحسن الصالح الجديد والجيد والحقيقي… كمال الحق الجوهري وملئه.
الحق الكنسي لا يحابي بالوجوه، فلا ينظر للأشكال والأسماء؛ بل بالحري إلى طبيعة الأعمال؛ وإلى ما ارتضته الكنيسة الجامعة في تقليدها واستمرار القلوب الطاهرة التي يحيا فيها المسيح؛ والتي لا تترك الحق الكنسي من أجل عواطف وجدانية أو تأويلات فردية أو إلصاق أسماء وأحداث على خلاف الحقيقة؛ لأن حدوث خطأ وتكراره لا ينبغي له أن يكون قاعدة بالتقادم، فلا نجعل من الاستثناء قاعدة ومن القاعدة استثناءًا؛ لأن القوانين وُجدت لإيقاف الأخطاء ومنعها من الانتشار، وُجدت لتكون مُذكّرة دائمًا للحقيقة التي تسد طريق الجحيم.
كذلك السجس والآراء المنقلبة والمتلاعبة لم تُثنِ قديسينا وآباءنا الأولين والمعاصرين أيضًا في رغبتهم أن يُعلّموا كلمة البر؛ لأن الحكم هو لله الذي يطلب العدل. كذلك وُجد الرعاة كأطباء في الكنيسة ليقدموا الأشفية اللائقة للكل.
إن عبادتنا وخدمتنا وشركتنا في مسار التدبير تكون دائمًا مشدودة نحو المستقبل الأبدي، تحفظه في وحدانية قلب. كل مرحلة من مراحل المسار نسيرها وفقًا لما تسلمناه؛ ليكون طابعنا المستقبلي المهيمن على مسار هذا التدبير مرموقًا طاهرًا وبلا عيب.
إن لكل قاعدة قانونية عنصرين: المضمون والصياغة. لذلك لا بد لقاعدة القانون الكنسي أن تحترم طبيعة الكنيسة الإكليسيولوجية Eκκλησιολογία كجماعة للمؤمنين؛ لكل عضو دوره الوظيفي والحركي في الجسد، وهي تُشكّل في مجملها الضمير الكنسي للشعب، وبها يتم ضبط وحدة الكنيسة كجسد؛ رأسه المسيح… وبها تنتظم العلاقة فيما بيننا… وبها وحدها تتضح رسالتنا في العالم كخميرة وكنور وكملح وكسفراء.
الأمر الذي يتطلب معه كل مطاليب الدراسة الحكيمة؛ لتفسير وتطبيق القوانين واللوائح المرعية؛ بما يحقق سلام وبينان وهدوء البيعة؛ وخلاص الرعية، لأنهم جميعًا (شعب اقتناء)؛ ليس كما يفتعل أبناء هذا الدهر الذين يُطلق عليهم ترزية القوانين؛ لأن مربط القضية في أن نتبين البناء المعياري الذي على أساسه تقوم القاعدة القانونية؛ كبذرة تفرعت منها كرمة البناء القانوني الكنسي؛ والذي لا هدف منه إلا سلام وبنيان الكنيسة من أقاصيها إلى أقاصيها.