أعلن يسوع أنّ عبادة الله غير مرتبطة بمكان محدّد، فالله لا يسعه مكان، ولا يمكن تقييده في مكان حصريّ ينبغي الحضور إليه لـمَن يشاء أن يصلي أو أن يحجّ إليه. لذلك حين سألته المرأة السامريّة: “آباؤنا سجدوا في هذا الجبل (جرزيم في السامرة)، وأنتم تقولون إنّ المكان الذي ينبغي أن يُسجد فيه هو في أورشليم”، أجابها يسوع مؤكّدًا: “يا امرأة صدّقيني، إنّها تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون فيها للآب (…) إذ الساجدون الحقيقيّون يسجدون للآب بالروح والحقّ” (يوحنّا 4، 20-23).
الله حاضر في كلّ مكان، وليس ثمّة مكان على وجه البسيطة الله غائبٌ عنه. الله يحضر حيث شعبه يجتمع باسمه تعالى. وهذا ما يؤكّده بولس الرسول بقوله: “كما قال الله: سأسكن بينهم، وأسير بينهم، وأكون إلههم، ويكونون شعبي” (كوررنثوس الثانية 6، 16). الله رحّالة لا يستقرّ في مكان، لا يشترط على الناس أن يأتوا إليه في مكان معيّن، هو يأتي إليهم أنّى دعوه وطلبوه.
في هذا السياق، يقول القدّيس باسيليوس الكبير (+379) تعليقًا على حديث يسوع مع المرأة السامريّة إنّ العبادة ما عادت مرتبطة بمكان جغرافيّ محدّد، فالروح القدس هو الذي صار “مكان العبادة”. ولكن المسيح أيضًا هو مكان العبادة، فإنجيل القدّيس يوحنّا يتحدّث بوضوح عن انتهاء العبادة في هيكل أورشليم، ذلك أنّ يسوع نفسه هو “الهيكل” الجديد، وبطلت الحاجة إلى هيكل مبنيّ في مدينة أو على جبل.
حين طلب اليهود إلى يسوع آيةً، أجابهم بقوله: “اهدموا هذا الهيكل، وأنا أبنيه في ثلاثة أيّام (…) وكان يسوع يعني بالهيكل جسده. فلمّا قام من بين الأموات تذكّر تلاميذه هذا الكلام” (يوحنّا 2، 18-22). أتى يسوع. صار بشرًا. أباد الموت. أكمل النبوءات. أبطل اليهوديّة. ألغى الحصريّة. رفض الانغلاق. حارب العنصريّة. أنشأ عهدًا جديدًا. صنع كلّ شيء جديدًا.
المسيحيّة، إذًا، لا تؤمن بوجود أراضٍ مقدّسة في مقابل أراض غير مقدّسة. فالأرض كلّها مدعوّة إلى القداسة عبر سعي القاطنين عليها إلى تقديس ذواتهم. القداسة هي للبشر، لا للأرض. الإنسان هو القدّيس، لا التراب. الإنسان هو المدعوّ إلى الحياة الأبديّة، لا الجبال ولا البحار ولا الأنهار ولا السهول… الإنسان هو صورة الله المدعو إلى مثاله، لا أيّ مخلوق آخر. الإنسان هو القيمة الكبرى التي من أجلها خلق الله كلّ شيء، لا العكس.
بيد أنّ المسيحيّة ديانة تؤمن بالتجسّد، وتاليًا بارتباط الإيمان والشهادة بالكنيسة المحلّيّة القائمة في مكان محدّد جغرافيًّا. وتؤكّد لنا هذا الارتباط بين الأمرين “الرسالة إلى ديوغنيطس”، وهي رسالة دوّنها، في نهاية القرن الثاني للميلاد، كاتب مسيحيّ مجهول الهويّة وجهّها إلى شخص وثنيّ يحتلّ موقعًا هامًّا في الإمبراطوريّة الرومانيّة اسمه ديوغنيطس طلب من كاتب الرسالة تعريفًا بالمسيحيّة والمسيحيّين، وبخاصّة تعريفه بإله المسيحيّين، وكيف يجلّه المسيحيّون؟ ولماذا لا يكترثون للموت في سبيل إيمانهم؟ ويفيدنا أسلوب الرسالة بأنّ كاتبها كان مثقّفًا كبيرًا وضالعًا باللغة اليونانيّة والبلاغة والخطابة بالإضافة إلى اللاهوت.
تقول الرسالة: “لا يتميّز المسيحيّون عن سائر الناس لا بالبلد ولا باللغة ولا باللباس. ولا يقطنون مدنًا خاصّةً بهم، ولا يستخدمون لغة محلّيّة غير عاديّة. ونمط عيشهم ليس فيه أيّ تمييز… وهم يتوزّعون في المدن اليونانيّة أو البربريّة حسبما قُسم لكلّ منهم. وهم يتكيّفون والعادات المحلّيّة المرعيّة، في ما يخصّ الملبس والمأكل وأسلوب المعيشة، فيما هم يجاهرون بالشرائع الغريبة وغير المألوفة حقًّا الخاصّة بملكوتهم الروحيّ، ويقيمون كلٌّ في وطنه، ولكن كغرباء مستوطنين ويؤدّون واجباتهم كاملة كمواطنين، ويتحمّلون كلّ الأعباء كغرباء. فكلّ أرض غريبة هي بمثابة وطن لهم، وكلّ وطن هو بمثابة أرض غريبة”.
انتهى مجد أنطاكية التي دعي فيها التلاميذ مسيحيّين أوّلاً. انتهى مجد القسطنطينيّة العاصمة العظمى للأرثوذكسيّة. انتهى مجد كبادوكية ونيقية وأفسس وخلقيدونية وإزمير والرصافة وتدمر… انتهى مجد الإمبراطوريّات المسيحيّة… بيد أنّ مجد المسيحيّين لن ينتهي، طالما هم متمسّكون بالأمانة ليسوع المسيح، يحملونه معهم حيث يرتحلون، وحيث ينتقلون، وحيث يستقرّون. يسوع وحده مجدهم.
ليبانون فايلز