جرى الاحتفال بها عَبر العصور! فمن بيير رونسار (هيّا نرى، يا صغيرتي، ما إذا كانت الوردة قد تفتّحت Mignonne, allons voir si la rose…)، إلى إيف مونتان (ورود بيكاردي) وجيلبر بيكو، ومن عبد الوهاب، يا ورد مين يشتريك للشاعر بشارة الخوري المعروف بالأخطل الصغير، يا وردة الحب الصافي، و يابدع الورد يا جمال الورد، غناء أسمهان، كانت موضوع قصيدة، أو أغنية أو رسم أو نحت، وعلى راية (حرب الوردتين)، وغيرها كثير. زهرة عبادة الأصنام، انها ملكة الحدائق والمنتزهات. مختارات من تاريخ بلا أشواك.
خمسة آلاف سنة من العمر
تثبت حفريات وجدت في أميركا وأوروبا وآسيا أن هذه الزهرة كانت تنمو في البرية منذ العصر الحجري. قبل حوالي 5000 سنة بدأ الصينيون بزراعتها واكتشفوا ميزاتها الكثيرة. ثم ان ثمرة النسرين المعروفة بخصائصها المنشّطة هي أكلة لذيذة شهية مرغوبة. كما ان قدرة خلاصتها القابضة أو العَقولة معروفة ومقدَّرة من قبل الحسناوات الأرستقراطيات وأصبحت علاجا لا غنى عنه لدستور الأدوية الصينية، كما يشهد على ذلك أحد أقدم الأعمال التي كتبت عن النباتات الطبية والمكتشفة حتى اليوم، ويعود تاريخها إلى 2900 سنة قبل الميلاد. كونفوشيوس نفسه ترك عدة أبحاث عن شجيرات الورد. يُذكر أيضًا أن شعوب ما بين النهرين ومصر وبلاد فارس واليونان كانت تمار أيضًا زراعة الورد قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة.
زهرة آلهة الإغريق
وصفتها الشاعرة سابو في القرن السادس ق. م. بأنها “ملكة الزهور”، وأبدعتها، بحسب الأساطير اليونانية، كلوريس، إلهة الزهور (فلورا عند الرومان)، بجسد حورية لا حياة فيه. وهي مكرسة لإلاهة الحب والجمال الإغريقية أفروديت، ثم إلى فينوس في العصر الروماني. وجاء في التقليد الأكثر شُيوعًا، أن ديونيسوس يقدم لها عطره الفاتن، وأن النِعم الثلاث (بنات زوس) تمنحها السحر والعظَمة والبهجة التي تنقلها إلى كل من يتأمّل بها، كوبيدو، ابن مارس (أو المريخ)، إله الحرب، وفينوس (الزهرة)، يحمل، إلى جانب قوسه وجَعبته، تاجًا من الورود، مثل بريابوس، إله الحدائق والخِصب. قبل الميلاد بألف عام، كانت وردة دمشق، إحدى أقدم الورود المعروفة، التي تراوح درجات لونها بين الأبيض الصَّدفي والأحمر القِرمِزي، تزرع في جزيرة ساموس تكريمًا لأفروديت.
وتكثر الأساطير حول نشوء الوردة الحمراء، رمز التجديد. تقول إحدى الروايات اليونانية أنها تلطّخت بدماء أدونيس، الذي أصيب بجرح قاتل، ودماء حبيبته أفروديت التي، ما إن هبّت لنجدته حتى علِقت بدَغْل من الورود البيضاء. إذ ان الأبيض، رمز الطُّهر، والأحمر،رمز الحب، يذكّران بوَجهَي الحب اللذين تجسدهما أفروديت – فينوس. لهذا السبب جرى استخدام هذه الزهرة، في العصر اليوناني الروماني القديم، أثناء حفلات الزفاف: تاجان من الورود يزيّنان جبهة العريسين، على غرار المحاربين، لأنها مقرونة أيضا بالموت والطقوس الجنائزية. وقد اكتشفت باقات كاملة في تابوت توت عنخ آمون، وخلال حكم رمسيس الثاني، أصبحت خلاصتها (عِطرُها) من المقوّمات الأساسية لطقوس التحنيط.
ولمّا كانت “ملكة الزهور” صورة لأسلوب حياة مرهف و مترَف، فهي جزء لا ينفصل من سجلّ الوقائع الشرقية. وإذا كان نبوخذنصّر الثاني، ملك بابل (حوالى 605-562 ق. م.)، يزيّن قصوره بوفرة من الورود، فإن الإمبراطور الروماني الدموي هليوغابالوس (204-222)، المولود في إيميس (تل أبو صابون – حمص) الذي حكم من 218 الى 222 تحت اسم ماركوس أوريليوس أنطونينوس، كان يحب تغطية رؤوس ضيوفه بوابل من أوراق تُوَيجات الزهور. ذلك أن النبلاء الرومان معتادون على نثرها على الأرض أيام المآدب، ولكن أيضا لتزيين رؤوس ضيوفهم بأكاليل من الزهور وتقديم المياه العطرة لهم لاغتسالهم. كما كانوا يعرضون عليم النبيذ المعطّر والمُحلِّيات (طبق يقدَّم بعد الألوان الرئيسة) بالورد.
كانت الرومانيات الأنيقات يدلّكن اجسادهن بزيت عطري ويقتنين قوارير عطر صغيرة، مكوّنة في الغالب من مستخلصات الورد والسوسن والبنفسج. أما بالنسبة للملكة كليوباترا، فيقال إنها طالبت بملء إحدى قاعات قصرها في الإسكندرية بأوراق تُوَيجات الزهور تعلو للركبة لإغراء أنطونيوس. كذلك استعملت الوردة في الشعر الفارسي مجازًا لاستحضار لون بشرة المرأة الحبيبة. كما ان كأس النبيذ غالبًا ما كان يُقارن بالوردة غير الشائكة لرائحته المسورة أو المثملة ولونه الغني.
ربما تم إدخال “ملكة الزهور” إلى بلاد الغال على يد الرومان منذ حوالي ألفي عام، حين رفضتها المسيحية في البداية بسبب صلاتها بالوثنية. ولكن يعتقد، بحسب تقليد من القرن السادس، أن القديس ميدار، أسقف نويون، قد أسس في قرية سالَنسي، مسقط رأسه بمقاطعة فرماندوا، جائزة “فتاة الورد” (فتاة فاضلة تمنح تاجاً من الورد لصيتها الحسن).
إرث الحروب الصليبية
في العصور الوسطى، استحوذ الأدب بدوره على الوردة، رمز الحب، مع سَرديّة الوردة الرمزية بقلم غليوم دي لوريس، وكان من أكثر الكتب مبيعًا في القرن الثالث عشر، وهو شعر غزلي في الحب الحقيقي تمثل الزهرة فيه الحبيبة. على أن الحروب الصليبية هي التي ستلعب دورًا حاسمًا في انتشار زراعة الورد في فرنسا عندما عاد تيبو الرابع، كونت منطقة شمبانيا، من الأراضي المقدسة، في العام 1240، حاملاً معه تشكيلة كبيرة من الورد الأرجواني الضارب الى البنفسجي الذي أصبح وردة بروفينس المشهورة. وقد أطلق علماء النبات على هذه الزهرة الرائعة، ذات الأريج العاطر، تسمية الوردة الغاليّة أو الفرنسية وأيضًا “الوردة الصيدلانية” لخصائصها الطبية المتعددة. منذ ذلك الحين، انطلقت بروفينس، وهي إحدى العواصم الثلاث لكونتيّة شامبانيا، في زراعة وتجارة “وردتها”. وراحت تزوّد أسواق ومعارض المقاطعة بالمنتوجات أو العقاقير التي تأتي منها في شكل مواد محفوظة جافة وسائلة. هذه المستحضرات كانت مطلوبة كثيرًا من قبل التجار الأجانب الذين كانوا ينقلونها إلى المناطق المجاورة أو البعيدة، وغالبًا إلى الشرق، مساهمين في زيادة شهرة مدينة شمبانيا.
وكانت المدينة تقوم أيضًا بتصنيع الوسائد والأكياس الصغيرة المعطرة المليئة بأوراق تُوَيجات الزهور المجففة والتي باتت تقدم، منذ بداية القرن الرابع عشر، للضيوف المتميزين. أخيرًا، حتى العام 1750، كان المشاركون في زيّاح القربان المقدس، الذي يقام في حزيران، يرتدون أكاليل من الورود، من صنع فتيات الرعية. واستمرت تقاليد البستنة والذواقة بنجاح في القرن الحادي والعشرين على شكل مزارع ورد شهيرة ومربّيات وعسل وكعك وغيرها من الحلويات.
شعار سياسي
تتّخذ الوردة أحيانًا شعارًا سياسيًا، كما ظهر في إنكلترا في القرن الخامس عشر في حرب الوردتين الضروس. الصراع الذي اندلع عام 1450 في عهد هنري السادس، ملك لانكستر لم ينته إلاّ في العام 1485 عندما اعتلى العرش هنري تيودور، الذي عرف في ما بعد بهنري السابع. هو ينحدر من سلالة لانكاستر من جهة والدته، تزوج إليزابيث يورك، ابنة إدوارد الرابع. واتفقت الوردتان على شعار تيودور وخرجتا بوردة تحمل الاسم عينه، حمراء بقلب أبيض. تجدر الإشارة إلى أنه بلغة الزهور. تعتبر جمعية الورود البيضاء والحمراء رمزا للوحدة والوئام.
في فرنسا، 1402، أقام دوق أورليان، شقيق شارل السادس، حفلة إكرامًا للوردة وقرر في هذه المناسبة إنشاء وسام للفروسية مخصّص للدفاع عن شرف السيدات. كانت الشاعرة كريستين دي بيسان، من بين الضيوف، حيث ألقت قصيدة الوردة التي تستحضر وقائع هذا الاحتفال الذي سيُقام في فندق أورليان في عيد الحب.
مواضيع للفنانين
يربط عصر النهضة، الذي أعاد اكتشاف الأساطير القديمة، الزهرة بالحب الأزلي. فها هي أوراق تُوَيجات الورود تتطاير في الهواء البحري التي رسمها بوتيتشِلّي عام 1485 في لوحته الشهيرة ولادة فينوس. أمّا لوحة الربيع للفنان نفسه، فتضع في المقام الأوّل الإلاهة فلورا، تنثر الزهور على العالم وترتدي جديلة من الورود. ثم خصّها الرسامون الفلامنديون والهولنديون في القرن السابع عشر بمكانة مرموقة في تناسق الأزهار الغنية.
تم إهمال الوردة بعض الشيء في نهاية القرن السابع عشر، ثم عادت الى الواجهة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وهي تزين بدقة الخزفيات والمرصعات الخشبية الثمينة، وتزهر على الستائر وأغطية الأسرّة، وتتألّق على المفروشات أو تنزلق على الفساتين المطرزة برقّة.
في القرن التاسع عشر، لعبت الإمبراطورة جوزفين دورًا حاسمًا في ابتكار أنواع جديدة من شجيرات الورد في فرنسا. فقد أنشأت في حديقة مالميزون الخاصة بها، يسكنها شغف حقيقي، أهم تشكيلة في عصرها، ما يقرب من 250 نوعًا. في أوقات الصراع تلك مع إنكلترا، صدرت أوامر إلى البحرية بتفتيش السفن العدوة من أجل استعادة الشتلات من الصين. ولتخليد تلك العجائب، أمرت جوزفين، التي كنيتها الثالثة روز (وردة)، برسمها على يد بيير جوزيف ريدوتي (1759-1840).
وردة التقوى الذهبية
في القرن الحادي عشر، أقامت الكنيسة طقسًا جديدًا تشكّل فيه الزهرة العنصر الأساس: ففي كل عام، في الأحد الرابع من الصوم الكبير، يبارك البابا وردة ذهبية يطوف بها بعد القداس في زيّاح ثم يقدمها إلى شخصية، غالبًا ما يتم اختيارها من بين الأمراء الكاثوليك، يكرمها لتقواها. واحدة من أقدم الورود الذهبية المحفوظة في العالم – لم يبق منها سوى ثلاث – تأتي من ذخيرة كاتدرائية بازل وهي موجودة في متحف العصر الوسيط بباريس.
في القرن الثاني عشر، جعل القديس برنار، مؤسس دير كليرفو ، من الوردة رمزًا للعذراء. في العام 1216، قام البابا إنّوسنتيوس الثالث بإضفاء الطابع الرسمي على طقس المسبحة. فمصطلح “المسبحة الوردية” يشير في الأصل إلى حديقة الورد، ثم ينطبق على أكاليل الزهر المضفَّرة أو المجدولة لتتويج تماثيل العذراء. وتوسُّعًا بالتعميم، باتت الكلمة ترمز الى السُّبحة الكبيرة التي تمثل أسرار حياة مريم والتي تصنع حبّاتها في الصيف من أوراق تُوَيجات الزهر المسحوقة والمجففة والمعطرة. وهكذا أصبحت الزهرة شعار الوفاء للكنيسة. وهي حاضرة في الفن الغوطي للكاتدرائيات المصنوع زجاجها بشكل دائرة. ثم كان التصوف المسيحي في العصور الوسطى، باعتماده الرمزية القديمة، اعتبر الوردة البيضاء رمزًا للعفة وبالتالي للحكمة الرُّهبانية، بينما تذكّر الوردة الحمراء بآلام المسيح ودم الشهداء. لقد زرعت الوردة كزخرفة في أحواض الزهور الملكية وكنبتة طبية في حدائق الأديرة، وشاعت خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، في أعياد دينية مسيحية كثيرة، لا سيما عيد العنصرة. ولا يزال هذا الاحتفال معروفًا في الأرياف باسم فصح الورود، بناء على عادات قروسطية لطيفة.