رغم ما تصفه الكنيسة في أثينا بأنه “خرافة”، “خرافة” أن الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية لا تدفع الضرائب للدولة، ثمة مشكلة فعلية تجعل فصل الكنيسة عن الدولة أحد المطالب “الاقتصادية” الأوروبية الملحة في الحالة اليونانية التي تُشغِل بل تهدِّد الاتحاد الأوروبي. ففي اليونان كل رجل دين ( أرثوذكسي) هو موظف كامل في الدولة.
قبل ثمانية أشهر وبضعة أيام، وبالتحديد في الثاني عشر من تشرين الثاني من العام المنصرم 2014 ألقى المتروبوليت البارز في الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية إغناطيوس أسقف ديميترياس محاضرة في لندن بدعوة من “الأوبسرفاتوار الهلليني” في مدرسة لندن للاقتصاد (LSE) تحت عنوان: “الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والأزمة الاقتصادية”. في المحاضرة يشرح المتروبوليت أن الكنيسة هي أكبر ناشط في المجال الخيري في اليونان من حيث تقديم الطعام والمساعدات الصحية. وبعد عرض لمفهوم دائم للكنيسة بدعم “الفقراء والغرباء” يعترف، وبلغة حذرة وإنما صريحة، أن اقتراب الكنيسة من السلطة، سلطة الدولة، سمح تقليديّاً بظهور حالات عيش مترَف بين بعض رجال الكنيسة يجب معالجتها.
المشكلة العميقة في حالة الكنيسة اليونانية كون الصلة بينها وبين الدولة تأسيسية. فتاريخيا لم يكن للدولة اليونانية التي نعرف أن تبصر النور عام 1830، كأول انشقاق مستقل وكبير في البلقان وحوض البحر الأبيض المتوسط عن الدولة العثمانية، لولا دور الكنيسة التي قادت، بالمعنى الحرفي للكلمة، الجماعة اليونانية للاستقلال عن اسطنبول.
لهذا تعتبر اليونان، رغم أوروبيتها ورغم الوجود القوي لليسار بتياراته المتعددة فيها، دولة لا فصل فيها بين الكنيسة والدولة بدءاً من الشكل: فكل الاحتفالات الأساسية الوطنية أو استلام المناصب الرسمية العليا تتم بأداء القسم أمام الكنيسة إلى المضمون وهو أن الدولة اليونانية تدفع الرواتب الشهرية لجميع رجال الدين العاملين في الكنيسة وهم بدءا من أدنى السلّم، بعشرات الآلاف وتضمن لهم تقاعدهم كأي موظف في الدولة.
هذه المسألة شكّلت في الجدل الصاخب الذي حصل ويحصل بين الحكومة اليونانية والترويكا الاتحادية الأوروبية في الأشهر بل السنوات الأخيرة أحد بنود النقاش الشاقة: أعباء الكنيسة على الاقتصاد اليوناني المتهاوي. فالتهمة الرئيسية في الاقتصاد اليوناني أنه بلد لا يدفع ضرائب بما يسمح لبنيته أن تكون على مستوى الاقتصادات الأوروبية التي لا تستطيع أن تتعايش مع فكرة التهرب الضرائبي وأحد مظاهرها في اليونان أن الكنيسة لا تدفع ضرائب عن ملكياتها الشاسعة التي قدّرتها صحيفة “اللوموند” بماية وسبعين ألف هكتار وبعض مبانيها بسبب تاريخيته لا يُقدّر بثمن. طبعا تهمة عدم دفع الضرائب بالمطلق ينفيها رجال الكنيسة ويعتبرونها متجنّية لأن الكنيسة تدفع ضرائب عن أنشطة مؤسساتها التجارية وذات المداخيل كما يدفع رجال الدين فيها ضرائب على رواتبهم ككل الموظفين. أيضا تقول الكنيسة أن إلغاء نظام العلاقة الحالي بين الدولة والكنيسة سيخلق مشكلة مطالبة الكنيسة بإرجاع الأراضي الواسعة التي تخلّت عنها للدولة.
إذن، رغم “الخرافة” كما تقول الكنيسة، ثمة مشكلة فعلية تجعل فصل الكنيسة عن الدولة أحد المطالب “الاقتصادية” الملحة في الحالة اليونانية التي تُشغِل أوروبا بل تهدِّد الاتحاد الأوروبي.
ليست الكنيسة اليونانية وحدها أقدم عمرا من الدولة، ففي البلقان هناك ظاهرة قيادة الكنائس لاستقلال الدول عن الامبراطورية العثمانية بل حتى أن الكنيسة المارونية هي على هذا المستوى جزءٌ من الظاهرة رغم اختلاف الظروف سواء في تأسيس متصرفيّة جبل لبنان التي لم تكن دولة مستقلة وإنْ كانت كيانا سياسيا ذاتيّاً أو من حيث تأسيس دولة لبنان الكبير لاحقاً بالتعاون مع فرنسا. لكن الحالة اليونانية تجعل المراقب اللبناني ينتبه إلى أن الكنيسة المارونية لم تطرح أصلا فكرة أن يكون رجالها أو رجال غيرها من الكنائس مدفوعي الرواتب من الدولة اللبنانية. وهي كنيسة كالكنيسة اليونانية والكثير من كنائس الشرق الأوسط وأوروبا والعالم غنية بالامكانات والأراضي. الذي حصل في لبنان، وهذه نقطة مثيرة وربما جديدةُ الاستعادة، هو أن الدولة الجديدة التي ضمّت مناطق مسلمة حول جبل لبنان تابعت، بتوجيه فرنسي، التقليد السلطاني بجعل رجال الدين المسلمين (السُنّة) موظفين تابعين للدولة وأضاف الانتداب الفرنسي لاستمالة الشيعة إنشاء جهاز موظفين رسميين من محاكمَ ومفتين وإداريين للمذهب الجعفري في ما سيصبح “الطائفة الشيعية” في القانون اللبناني.
إذن في لبنان رجال الدين من الطوائف السنة والشيعة والدروز يتقاضون الرواتب الوظيفية الرسمية مع أن الدولة ليست مسلمة (ولا مسيحيّة) من حيث الشخصية الدستورية بينما هي في اليونان “مسيحية” في أساس تقديمها الدستوري مثلما هي مسلمة في مصر والعراق وسوريا (السابقة) والمغرب طبعا والجزائر وتونس إلخ…
عالم اليوم يطرح تحدياتٍ على الكنائس كما على كل المؤسسات الدينية. وفي بلد مثل اليونان لا ترتبط مسألة الكنيسة بأقل من الهوية الوطنية للشعب اليوناني، الهوية كفكرة مؤسِّسة. ولهذا فإن الجدل الأوروبي اليوناني الاقتصادي يطرح عميقا تحدياتٍ جديدةً على هوية البلد وبنية الدولة وموقع الكنيسة الأرثوذكسية فيهما.
هذا البلد الذي يديره اليوم ديموقراطيّاً حزب سياسي “ملحد” (سيريزا) وألغت إحدى حكوماته السابقة الإشارة الدينية عن بطاقة الهوية الفردية عام 2000 سيعلن رئيس أساقفة كنيسته ليرونيموس على التلفزيون وفي ذروة التفاوض في بروكسل في نيسان المنصرم حول وضع الديون اليونانية أن الكنيسة مستعدة لتقديم إمكاناتها للدولة للحصول على موارد جديدة. وعندما سئِل من محاوره، حسب وكالة “رويترز”، هل تقصد بذلك أن الكنيسة مستعدة لبيع أراضيها لمساعدة الدولة على رد الدَّين، أجاب كلا، ما أقصده هو أن تتعاون الكنيسة والدولة يداً بيد لإدارة هذه الأراضي وتأمين موارد جديدة تساعد على دفع الدَّين. وتابع: أما الأرض فستبقى يونانية بأيدي اليونانيين. سيلاحظ القارئ إذن كيف يربط رئيس الأساقفة بقوة بين هوية الأرض وبقاء ملكيتها للكنيسة.
قال يورغن هابرماس أحد أكبر مفكري التجربة الأوروبية قبل أيام لصحيفة “الغارديان”، أن ألمانيا بعدم حساسيتها، أي بعدم حساسية أنغيلا ميركل، تجاه معاناة اليونان ترمي بجهود خمسين عاما من التغيير الإيجابي في صورة ألمانيا.
هذا وجه من نقاش صعب ومكلف يدور بالنتيجة بين بلد متعثّر وبيئته المحيطة المتقدمة. لكنْ رغم كل النقد الذي يُوجَّه لسياسات بروكسيل القاسية ووراءها ألمانيا، ورغم كل التضحيات التي بدأها الشعب اليوناني منذ سنوات في الواقع، فإن البيئة الأوروبية المتقدمة تدفع إلى الأمام.
لهذا اليونان محظوظة طبعا قياساً بنا على أساس معيار المحيط الدافع إلى الأمام والمحيط الدافع إلى الوراء. واليوم محيطنا في أسوأ حالاته. إذن نحن وكنائسنا ومساجدنا في خطر شديد.
جهاد الزين / النهار