يبحث المسيحيّون في لبنان عن استعادة حقوقهم الطائفيّة في الدولة ومرافقها من رئاسة الجمهوريّة وصولاً إلى الوظائف الدنيا في الإدارات والمرافق العامّة، إذ يعتقدون أنّهم باستعادتهم حقوقهم الطائفيّة سوف تعود الثقة إلى المسيحيّين فلا يغادرون البلاد إلى غير رجعة. لن نناقش هذه المسألة، لأنّ ثمّة مسائل أكثر أهمّيّة تجدر الإشارة إليها. ذلك أنّ المسيحيّين قبل أن يطالبوا المسلمين باستعادة الأدوار والصلاحيّات والمراكز والمواقع في الدولة… عليهم أن يروا إلى أنفسهم ما المطلوب منهم لتثبيت الوجود وألق الحضور.
ثمّة خطأ قاتل يكمن في اختزال دور المسيحيّين في بلادنا إلى مجرّد دور سياسيّ تؤدّيه حفنةٌ من الرجال من دون النساء، أو موقع سياسيّ يملؤه رجل واحد مهما عظم شأنه لن يصنع العجائب في بلد التوازنات والتناقضات والمصالح… هو خطأ قاتل لأنّه يقضي على الشهادة المسيحيّة المطلوب أداؤها أيًّا كان الثمن، وهذه الشهادة متعدّدة بتعدّد المواهب لدى المسيحيّين، وما حصر هذه الشهادة بالسلطة السياسيّة سوى مقتل لهم ولشهادتهم في الآن عينه.
تعظم مشكلة المسيحيّين عندما تتلهّى مؤسّساتهم الكنسيّة عن الاهتمام بأمورهم الآنيّة، وبالتخفيف من معاناتهم الماليّة، فتنصرف إلى الاعتناء بأمور شتّى تشتّت الانتباه عن الدور الحقيقيّ لهذه المؤسّسات في دعم الحضور المسيحيّ وعدم هجرة المسيحيّين وكفرهم بهذه البلاد ومَن فيها… وعوض أن تسهم هذه المؤسّسات في دعم بقاء المسيحيّين في ديارهم تراها تسهم، من حيث تدري أو من حيث لا تدري، والله أعلم، بتوفير الذرائع الإضافيّة لتبرير الهجرة واللجوء إلى أوطان جديدة تؤويهم.
حسنٌ أن يحثّ القادة الكنسيّون أبناء كنائسهم على الصمود في ديارهم وعدم الانسياق وراء مغريات الهجرة… لكنّ كلامهم لا يلاقي الصدى الطيّب لدى الذين يتوجّهون إليهم بالكلام، لأنّ السامعين لا يرون أفعالاً على الأرض تنسجم مع كلام القادة. فثمّة هوّة عميقة تفصل ما بين الأقوال والأعمال. أمّا الميدان الأبرز الذي يشعر فيه المرء بالتناقض فهو الميدان التربويّ.
لا ريب في أنّ الدولة هي المسؤولة عن تأمين العلم والدراسة للمواطنين كافّة. لكن في غياب الدولة عن واجباتها في دعم المدارس الرسميّة، لجأ الأهالي إلى المدارس الخاصّة، ومعظمها ذات طابع كنسيّ، لتسجيل أولادهم طلبًا للعلم والمستوى المطلوب. غير أنّ الأحوال المعيشيّة وغلاء الأقساط قد لا تسمح للكثيرين بأن يغامروا بإرسال أولادهم إلى المدارس الخاصّة. فما العمل؟
قبل أن ينهمك القادة الكنسيّون بالبحث عن أدوار سياسيّة لهم أو لأتباع كنائسهم من السياسيّين، بذريعة دعم الوجود المسيحيّ، أليس المطلوب أن يقدّموا هم النموذج الأمثل الذي يعمل بكلّ طاقته من أجل تأمين التعليم لأبناء كنائسهم الرازحين تحت معاناتهم اليوميّة لتأمين القوت واللباس بعض الترفيه لأهل بيتهم؟ أليس، مثلاً، تخفيض الأقساط المدرسيّة أو الثبات عليها عوض رفعها أفضل هديّة يمكن تقديمها للأهل عوض الكلام عن أهمّيّة البقاء؟ أليس دعم البقاء يمرّ عبر التكافل الاجتماعيّ والماليّ ما بين قادة الكنيسة وأبنائها؟
الأسبوع الماضي فازت الطفلة “لين” بلقب أفضل صوت، وحازت منحة ماليّة لدعم دراستها. لكلّ طفل موهبته الخاصّة، بسمته الساحرة، عيناه الحالمتان، وجهه الفريد… كلّ طفلّ يستحقّ أن ينال حظّه من العلم والنجاح، ومن الحياة والرفاهيّة، ومن الحبّ والعطاء.
إذا شئتم استعادة الدور المسيحيّ في الشرق، فهو هنا يكمن، في مواهب أطفالنا العلميّة والثقافيّة والأدبيّة والفنّيّة والرياضيّة، أكثر ممّا يكمن في موقع سياسيّ… فلا تيّتموا البلاد من هذه الطاقات الواعدة بسبب حفنة من الأموال تستطيع تأمينها، وبلا ريب، المؤسّسات الكنسيّة التي ما زالت تتصرّف، في هذا الشأن، انطلاقًا من الذهنيّة ذاتها التي للمؤسّسات التجاريّة.
الوسوم :اهتمامات المؤسّسة الكنسيّة وهموم الناس بقلم الأب جورج مسوح