لا شك أن خبر وقف الحكم بسجن الكاتب المصري أحمد ناجي، لمدة عامين بتهمة خدش الحياة لنشره فصلا من روايته “استخدام الحياة”، في “أخبار الأدب”، وفق قرار محكمة النقض أخيرا، انتصار ساطع لحرية التعبير، وذلك بعد العفو عن كل من المفكر إسلام البحيري والكاتبة فاطمة ناعوت بموجب العفو الرئاسي في مصر، قبل أسابيع.
يختلف الإفراج عن ناجي كونه يأتي تنفيذا لحكم محكمة النقض، وهو ما يعني أن جهدا محمودا، إجرائيا وقانونيا، قد تم بذله لإقناع هيئة المحكمة بقبول الطعن الذي قدّمه محامو ناجي، وبالوصول إلى هذا القرار، وهو وقف تنفيذ حكم السجن حتى تتم دراسة الطعن في كانون الثاني المقبل. هذا في تقديري الجهد المطلوب منذ البداية، الذي ربما لو توافر لما تم الزج بناجي في السجن، وخصوصا أنه كان قد حصل على البراءة في أولى جلسات المحاكمة.
تراوحت التهم التي حبس بمقتضاها الكتّاب الثلاثة بين “خدش الحياء”، وازدراء الأديان، وهما في الحقيقة تهمتان يشعر المرء بأنهما مستعارتان من زمن محاكم التفتيش، بسبب الشعارية في التوصيف، وبموجب المساحة الفضفاضة للتفسير الدقيق لأي من التهمتين. تالياً، هما تبدوان أقرب ما تكونان لتهمتي ردع وتهديد لحرية الفكر ودعم السلطة الدينية في المجتمع، على حساب قوانين الحياة المدنية الحديثة التي تقوم أساسا على فكرة التعايش الذي يعني في جوهره القدرة على تقبل الاختلاف، العقيدي والعرقي والإتني والطائفي، والفكري تالياً.
وهو ما يتأكد حين نستدعي منطوق ما قالته النيابة في التحقيقات بالقول إن “الاتهام ثابت على المتهمين وكافٍ لتقديمهما إلى المحكمة بسبب ما قام به المتهم أحمد ناجي، ونشره مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجّر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكًا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجًا على عاطفة الحياء”.
مع ذلك، لا يزال الطريق طويلا، ولا يزال حجم الجهد المطلوب من قوى المجتمع المدني وبينهم المثقفون ورجال القانون وسواهم، كبيرا، لأن الواجب على الشارع القانوني المدني المصري تفعيل وسائل الضغط على القنوات التشريعية لفحص القوانين المعرقلة للحريات الشخصية وبينها حرية التعبير لوقفها. وهذا يقتضي أيضا
حركة حزبية ومعارضة قوية موضوعية قادرة على تبني هذه المقترحات والوصول بها إلى مجلس الشعب الذي ترك مع الأسف لمجموعات من النواب الذين لا أظن أنهم يمكن أن يحققوا شيئا لصالح المجتمع المدني في مصر.
فالثرثرة والسفاسف، والانتقاد من دون خطة عمل لمواجهة معوقات حرية التعبير كانت وستظل ضجيجا بلا طحن إن لم تعضد بـ”عمل” جاد وحقيقي يوازي جدة فكرة الزج بكاتب أو بصاحب فكرة إلى السجن.
لعل الدرس الأهم هنا يتوجه إلى كل من أقام دعاوى جنائية ضد هؤلاء الكتاب، فقد خرج البحيري من السجن، وعاد فورا إلى منصة الرأي ليستكمل رسالته في الإصلاح الديني والدعوة لتنقية التراث الديني الإسلامي المتناقل إرثا منقولا لم يتم فحصه نقديا منذ عقود، ما أسفر عن سيادة تيارات الفكر الشمولي الديني الذي يسعى جاهدا اليوم لتخريب العالم من أقصاه إلى أدناه، يستحل دماء البشر بلا وازع أو رادع.
فالسجن في الحقيقة، وهو عقوبة بشعة، لا تليق بالكتّاب واصحاب الرأي شاء من شاء وأبى من أبى. لكنه لا يغيّر فكرة، ولا يوجه رأيا. لأن الرأي، كل رأي، لا يمكن مواجهته إلا بالحجة والرأي المقابل. لم تتوقف فكرةٌ حُرِقت في كتاب، أو قُتل صاحبها أو تعرض للسجن، ولا نزال حتى اليوم نتداول أفكار سقراط ونقرأ حواراته التي أسست للفلسفة، كما نقرأ أفكار الملاحدة في ذروة مجد العصر الإسلامي وبعده. ولا نزال نتداول كتب التراث العربي التي تتناول وصف الأعضاء الجنسية والحب والعلاقات الجنسية بما يفوق قدرة أي كاتب معاصر.
شخصيا يسعدني أن يكون الإفراج عن إسلام البحيري وناعوت وناجي قرارات مصرية وليست نتيجة لضغوط خارجية كما يفضل البعض. لأنني من المؤمنين أننا في ضوء المتغيرات العالمية الجديدة لا يمكن حقا أن نثق بالغرب كثيرا في قضايا التنمية أو الحرية.
لا أزال أعتبر الاحتماء بالغرب في قضايا حرية الرأي مجرد شؤون سياسية يستخدمها الغرب لأغراضه السياسية وليس من أجل إرساء حق أي عربي لا في الحرية ولا في غيرها، وشواهد ذلك اليوم لا تحتاج مني لأي توضيح. فالدم الآن في كل مكان، والغرب ضالع في تحريك ما يحدث في الخفاء والعلن.
كما أن الدفاع عن حرية التعبير لا يعني إطلاقا بالضرورة الموافقة على فكر محدد، أو الزعم بأن جودة نص أدبي تتحقق من سجن كاتبها، وأي وقوع في أمر من مثل هذه الأمور، من أي كاتب عربي أو غربي، وخصوصا ممن يدافعون عن نصوص لم يقرأوها لأن أصحابها مسجونون، هو تدليس على الأدب والفكر.
فنحن ندافع عن حرية أصحاب الفكر وحقهم في التعبير، بكامل حريتهم. شخصيا، قد لا يعجبني مضمون فني ما، ولكني ملتزم الدفاع عن حق صاحبه في التعبير الفكري أو الأدبي. فعلت ذلك في قضايا عديدة، وبينها الدفاع عن الكاتب علاء حامد عن روايته “مسافة في عقل رجل”، التي تلقى بسببها حكما بالسجن لمدة سبع سنوات، أو مع كتاب “أين الله” لكرم صابر، وسواهم. فالاختلاف الفني مجاله النقد الفني وليس ساحات المحاكم والسجون.
للمناسبة يؤلمني حقا اكتشاف أن الكاتب صابر كرم قد تلقى حكما نهائيا بالسجن خمس سنوات، ولم نسمع من يدافع عنه خلال السنوات الأخيرة أو يطالب بالإفراج عنه، أو يضع اسمه بين القوائم التي عرضت على الرئاسة في مصر قبل فترة وجيزة.
إن الجهود التي أسفرت عن إقناع الرئاسة بالعفو عن المعفى عنهم، أو تلك التي بذلت من أجل قبول الطعن لوقف تنفيذ الحكم على ناجي من بشائر الأمل، وضرورة العمل المستمر من أجل تنقية القوانين من كل معوقات حرية الرأي في مصر، مهما تطلب ذلك.
إبرهيم فرغلي
النهار