ناتالي إقليموس / الجمهورية
إعتبارات متعدّدة أدَّت إلى تراجع إقبال الشباب المسيحي على تولّي الوظيفة العامة في لبنان. منها ما يتعلَّق بحال الإستقالة من الدولة نتيجة الوصاية السوريّة على لبنان؛ ومنها ما له علاقة بالطابع التنظيمي المترهّل لهذه الوظيفة، والروتين الإداري الذي يحكمها، والمحسوبيات في إختيار المرشّحين لها… عوامل ولَّدت نفوراً لدى الشباب المسيحي الذي لم تتجاوز نسبة تقدمه من الوظائف العامة الـ30 في المئة .
بين الغياب، والتغييب، والإقصاء، والإنكفاء، تبايَنت توصيفات الحضور المسيحي في الدولة بحسب خلفيّة المراقب… إلّا أنّ الحقيقة بالأرقام واحدة. فوفق عملية الرصد التي تقوم بها جمعية «لابورا»، يتبيَّن أنّه منذ العام 2008 حتى 2013، لم تتجاوز نسبة تقدّم الشباب المسيحي إلى الوظائف العامة الإدارية الـ27 في المئة. فمِن أصل نحو 18 ألف و600 متقدّم العام 2009، فقط 24 في المئة منهم مسيحيون.
حتى إنّ هذه النسبة التي يعدّها بعضهم مرتفعة نسبياً، تدنّت إلى 21 في المئة العام 2012 من أصل 30 ألفاً، في حين بلغ الحضور المُسلم 75 في المئة العام 2009، ليَرتفع إلى 78 في المئة بعد ثلاثة أعوام.
أما على مستوى الناجحين، فالنِسب لَيست أفضل بكثير. ففي العام 2009، من أصل 5 آلاف و900 ناجح، شكّل المسيحيون 29 في المئة. ثم إرتفعت هذه النسبة العام 2010 مجرَّد واحد في المئة، فبلغ عدد المسيحيين الناجحين 30 في المئة من أصل 762 ناجحاً، لتتدنّى مجدداً إلى 23 في المئة العام 2011، وتُسجّل إرتفاعاً طفيفاً بنسبة 25 في المئة العام 2012.
حيال هذا الحضور «الخجول»، في الأعوام الأخيرة، شكّل العام 2013 بارقة أمل، بعدما شهدَ نسباً واعدة. فمِن أصل 2955 متقدّماً، 26 في المئة مسيحيّون. ومن بين 276 ناجحاً، 44 في المئة مسيحيون.
على رغم هذا التحسّن الملحوظ، يرفض الأب طوني خضره مؤسّس جمعية «لابورا» الإكتفاء بما أسماه «القفزة النوعية»، معتبراً في حديث لـ«الجمهورية» أنّ «بوسع الشباب المسيحي تحقيق أكثر من ذلك، بصرف النظر عن العوامل التي أبعَدته عن دولته، فهو أيضاً شريك فيها».
ويوضح: «غالباً ما نَسمع الشباب يُردّدون «الدولة مش إلنا»، جرّاء المزاحمة التي يُواجهونها، من هنا ضرورة التنبّه إلى مغبّة تناقل هذه المقولة والعمل على تغيير هذه الذهنية».
ويتابع متأسفاً: «يتنافس العدد الأكبر من مدارسنا على تسجيل أعلى نسبة نجاح في ما بينها، لكن في الواقع غالباً ما يكون الطلاب المتفوّقون مشروع هجرة. في حين تنهمك مدارس الطوائف الأخرى بتأهيل تلامذتها لخوض غمار إمتحانات الخدمة المدنية بدءاً من إتقان اللغة العربية الأم».
بالإضافة إلى العامل النفسي، لا يُهمل الأب خضره العامل المادي، ويقول: «معظم شبابنا الذين نُحاول إقناعهم والتفاهم معهم، إما يطمحون إلى أن يكونوا مدراء، وأصحاب مداخيل عالية أو لا يتقدّمون من الوظيفة، وهذه أحد الأسباب التي تحدّ من الحضور المسيحي في الدولة، بالإضافة إلى ذهنيّة الوساطة والمحسوبيات».
يأبى الأب خضره إلقاء كامل المسؤولية على عاتق الشباب المسيحي، محذّراً من مخطّطات كانت تُحاك على حساب الحضور المسيحي، قائلاً: «في الماضي، عندما كانت نسبة المسيحيّين الناجحين تتخطّى الـ30 في المئة، أو لا تُرضي النتيجة المعنيّين، يتم عرقلة المباريات أو عدم إستدعاء الموظفين، أو خلق أي «تفنغي»، لمجرّد حصر هذا الحضور.
بالإضافة إلى ممارسات أخرى كتهريب الامتحانات لجهة على حساب أخرى، وغيرها من التجاوزات التي دَفعنا ثمَنها. وقد أظهرت ذلك الاحصاءات المتعاقبة». ويختم كلامه: «إلّا أن مجهود «لابورا» لم يذهب سدى، ويكفي النظر إلى الجدول لمعرفة الفرق الذي شكّلته».
مسألة مستغربة…
أيّ دور للكنيسة؟ سؤال توجَّهنا به إلى راعي أبرشية أنطلياس المارونية المطران كميل زيدان، الذي يعتبر أنّ الحضور المسيحي الخجول مردّه أكثر من سبب، مُميّزاً بين عوامل «داخلية ضمن المجتمع المسيحي، وخارجية هدَفت إلى قهر المجتمع المسيحي، عزَّزتها الحرب الأهلية وما أنتَجته من إحباط في صفوف المسيحيين، ولا سيما الشباب منهم».
ويقف زيدان مدهوشاً عند معادلة عدَّها بسيطة وعميقة في آن معاً: «قد تبقى سدّة رئاسة الجمهورية فارغة، وتستمرّ الحياة السياسية وكأنّ شيئاً لم يكن، في حين إذا شغرت رئاسة مجلس الوزراء أو النواب، سرعان ما تتعرقل الحياة برمّتها! أليس ذلك مستغرباً؟».
أما عن دور الكنيسة، فيؤكّد زيدان أنها لا تقف متفرّجة، قائلاً: «غالباً ما تدعو إلى وحدة الموقف السياسي المسيحي، وهي لا يُمكنها أن تنوب عن السياسيين، إنما توجّه القادة المسيحيين إلى رصّ الصفوف ووضع خطة متكاملة ومتوازنة».
ويضيف: «تعمل الكنيسة على ثلاثة محاور: التوعية، متابعة الملف ولا سيما على مستوى الوظائف المتاحة، وحضّ الشباب على الالتحاق بالوظائف العامة. إلى جانب دعوة السياسيين إلى تأمين غطاء سياسي لدخول الشباب في الإدارات العامة».
يتَّفق كلٌّ من المطران زيدان والأب خضره، على أنّ «من دون مرجعية سياسية موحّدة لا يمكن أن نُحقّق عودة قوية للدور الحقيقي إلى المسيحيّين، وأيّ توازن يصعب تحقيقه في إقتصار المناصفة على الفئة الأولى».
بين الأحزاب والكنيسة «حَذر»
أياً يكن حجم المجهود الذي تبذله الكنسية وجمعية «لابورا» في إعداد الشباب وتأهيلهم لتحصيل وظيفة عامة، ثمّة رغبة ضمنية لا يمكن تجاهل أوزارها، وهي رغبة الأحزاب في إبقاء قناة الولوج إلى الدولة تحت عباءتها. فبعض القادة المسيحيّين تريّث قبل التعاون مع الجهات الكنسية، ليتأكّد أنّ أحداً لا يسعى للحدِّ من حساباته السياسية، لذا يُردّد في مجالسه «الأحزاب المسيحية مش مقصّرة»، ولكن…».
من جهته، لا يُنكر النائب سيمون أبي رميا، «وجود إستقالة مسيحية من الدولة والإدارة عموماً، منذ التسعين إلى العام 2005، مروراً بعصر الإحباط المسيحي نتيجة تغييب الجنرال ميشال عون وسجن الدكتور سمير جعجع، ما ولّد إحجاماً مسيحياً عن الدخول إلى الدولة وأحدَث خللاً طائفياً».
إلّا أنه يرفض إعتبار أنّ تحسين الحضور المسيحي حكر على أحد. ويوضح لـ«الجمهورية»: «المسألة ليست حكراً على تيار أو حزب، نعمل جميعنا من خلال لجنة المتابعة النيابية في بكركي على مواكبة ملف الحضور المسيحي، فالهواجس مشتركة. ونعمل كذلك ضمن أحزابنا وتياراتنا من أجل تحفيز الشباب وتشجيعهم للإنتساب إلى مختلف قطاعات الدولة العسكرية والإدارية».
أما بالنسبة إلى المساعي الخاصة التي يبذلها «التيار الوطني الحر»، لتعزيز الحضور المسيحي في الدولة، فيقول: «نتواصل مع كل قضاء، نرسل له الوظائف المتاحة، وهيئات الأقضية تُعمّمها على الهيئات المحلية في كل لبنان. في كل قرية، هيئة محلية، وبالتالي نسعى للوصول إلى أكبر شريحة شبابية، عبر وسائل إعلامنا المتاحة».
من جهته، يعتبر عضو تكتل «القوات اللبنانية» النائب إيلي كيروز أنّ أي تعزيز للحضور المسيحي «لا يمكن أن يتحقّق ما لم يتخلَّ المسيحيون عن الإحباط، ويتحلّوا بالرجاء، بالتزامن مع إستحداث حوافز من خلال تنقية الإدارة العامة وتطهيرها من عناصر الفساد، وتأمين ظروف معيشية وتقديمات أفضل للموظفين العامين، بالإضافة إلى تطبيق سليم وشفاف لمفهوم الثواب والعقاب وإعتماده في الترقيات بمعزل عن الإعتبارات السياسية والطائفية».
ويتوقف كيروز في حديث لـ«الجمهورية» عند الأهمّية التي يُوليها حزب «القوات» لحضّ مناصريه على الإنخراط في الدولة، قائلاً: «لإقناعهم من خلال حملات التوعية ولا سيما في الجامعات، لا بد من أن ننطلق من تغيير نظرة الشباب السلبية إلى الموضوع، وبناء صورة لائقة للدولة والإدارة على أساس الكفاءة والنزاهة وخدمة الصالح العام بعيداً عن المحسوبيات والفساد. وكذلك إقناعهم بأهمية تعزيز حضورهم في الوظائف العامة».
ويَستدرك: «لكنّ أيّ جهد يبذله الحزب على هذا الصعيد تبقى نتائجه محدودة التأثير في نسبة الإقبال، نظراً إلى غياب دولة الإستقلال والقانون وعدم معالجة الشوائب التي تعانيها الإدارة العامة»، مشيراً إلى أنّ «تحقيق اللامركزية الإدارية التي نصَّت عليها وثيقة الوفاق الوطني العام 1990، يمكن أن يشكل فرصة ذهبية للإصلاح وإعادة بناء الصورة الجيّدة».
الحل؟
وعمّا يمكن أن يشكّل حلاً في الوقت الراهن، يُجيب كيروز بنبرة حاسمة: «طبعاً، إنّ التذمّر من تغييب المسيحيين عن الدولة هو موقف سلبي وغير مجدٍ، لأنّ المبادرة إلى ملء شغور الوظائف العامة، ومنها العسكرية والأمنية المتاحة في المدة الأخيرة، يمكن أن تشكل حلّاً مناسباً، لعدّة معضلات اجتماعية .
في الختام، لا يمكن الإستخفاف بعامل عدم الإستقرار الذي يتأثر فيه المكوّن المسيحي بشكل كبير، وهذا مرده إلى غياب الدولة الفعلي والحروب الصغيرة المتنقلة في الداخل، كذلك الحروب الكبيرة على الحدود، بالإضافة إلى الفراغ في الرئاسة الأولى والتمديد «المرتقب» لمجلس النواب مع ما يعنيه ذلك من تجميد للديموقراطية اللبنانية. ولكن أي معالجة لا يمكن أن تنجح ما لم يكن الشباب المسيحي على قدر إستحقاقاته وإقتناصه للفرص.