تهدف زيارة الحبر الأعظم لأخيه بطريرك القسطنطينيّة برتلماوس ردّ لزيارات سابقة من البطريرك لكرسي بطرس في “روما العظمى” التي كان القدّيس صفرونيوس قد وصفها ب”الكرسي الرسوليّ الذي فيه عماد العقائد القويمة” فأصبحت “بمثابة المنارة لجميع الكنائس تحت الشّمس”. وصحيح أن “بذور الانقسام بين روما وبيزنطة ترتقي إلى تأسيس القسطنطينيّة” كعاصمة للإمبراطوريّة الرّومانيّة الشّرقيّة” سنة 330م على يد الإمبراطور قسطنطين. حتّى ذلك الوقت، ما كان هنالك “خلاف على الخلافة” إذ أنّ بابا روما كان في نفس الوقت خليفة القدّيس بطرس رئيس الرّسل –وما زال- وأسقف العاصمة أي روما القديمة. “وسنة 381م أعلن مجمع القسطنطينيّة في المادّة الثّالثة أنّه “على أسقف القسطنطينيّة أن ينال أولويّة شرف بعد أسقف روما لأنّ القسطنطينيّة هي روما الجديدة”. واحتجّ مندوبو البابا ولاحقًا قداسة الحبر الأعظم لاون في القرن الخامس مستندين إلى أنّ “الأمور الرّوحانيّة يجب ألاّ تُقاس على التقلّبات الزّمنيّة الدّنيويّة أي السياسيّة بمعنى انتقال عاصمة الإمبراطوريّة من روما إلى القسطنطينيّة “روما الجديدة”، ومن هنا أتت كلمة “روم” ارثوذكس. ويلحظ المرء أنّ طلب أسقف بيزنطة حينها ما اعتمد على تقليد يروي أنّ القدّيس الرّسول أندراوس شقيق القدّيس بطرس هو الذي أسّس كنيسة تلك المدينة.
خصوصًا بعد سنة 1962 أدرك البابوات من ناحية وبطاركة القسطنطينيّة من ناحية أخرى ضرورة التّقارب والوحدة، وهم واعون أنّ ذريعة الانشقاق كانت سياسيّة إداريّة أكثر منها عقائديّة. وهذه الزّيارات الحبريّة والبطريركيّة المتبادلة خير فُرص للمودّة وحوار المحبّة والأخوّة بين الكنيسة الكاثوليكيّة وشقيقتها الارثوذكسيّة البيزنطيّة. وفي تركيا مناسبة أيضًا للقاء الأشقّاء الأرمن والسّريان وسواهم، مع أنهم نفر قليل، لا تتعدّى نسبتهم وسائر مسيحيي تركيا الواحد بالمئة، من مجموع 76 مليون نسمة.
شأن تركيا في العالم الإسلاميّ ولدى دول المنطقة
كان البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني الكبير –الّذي بدوره زار تركيا وكذلك خلفه بندكتوس السّادس عشر– قد دعا إلى “تنقية الذّاكرة” و”الاعتذار المتبادل على الإساءات”، فتاريخ البشر مع الأسف مليء بالتّجاوزات والظُّلم والأحقاد. وها نحن نرى بأمّ العين القتل والتّشريد. وفي هذه المناسبة يجدر بالمرء أن يشكر البلاد التي استقبلت –وما تزال- جماهير اللاجئين، وعلى رأسهم الاردنّ ولبنان وتركيا وبعض دول أوروبا.
وبصفة البابا فرنسيس الرأس المنظور للكنيسة الكاثوليكية وفي الوقت عينه رئيس دولة الفاتيكان، فإنّ قداسته سيخوض مع السّلطات التّركيّة موضوع الحوار بين المسيحيّين والمسلمين الذي بات –كما كتب البابا بندكتس– “لا من النوافل بل من الضروريّات” بحكم تداخل الشعوب والهجرة وتحرّك الأقوام من بلادهم إلى سواها، ومطالب العالم المعاصر في التّسامح وتوسيع الآفاق. ولا يخفى على أحد دور تركيّا في الصراعات الحاليّة.
ويبدو أنّ الشّاب علي آقجا –الذي حاول اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني– أبدى رغبته في مقابلة الحبر الأعظم فرنسيس في إثناء زيارة قداسته لتركيا. ومهما تتّخذ السّلطات التركيّة من قرار في هذا الشّأن، فإنّ المرء يذكر بتأثّر عفو البابا القدّيس عن الشّاب الذي أعطى تفسيرات متضاربة حول الدّافع لمبادرته والواقفين وراءها. ويشيد المرء في هذه المناسبة بالرّئيس الإيطاليّ السّابق “تشامبي” الذي شمل “آقجا” بالمغفرة بعد أن زار الحبر الأعظم السّجين علي آقجا في معتقله.
خاتمة
تطوي زيارة البابا فرنسيس صفحات من الجفاء وقرونًا تسعة من العداء بين الكنيستين الشقيقتين الرومانية والبيزنطية الأرثوذكسيّة. وبمصافحة قداسة البابا للمسؤولين الأتراك ورجال الدين الإسلاميّ يرجو الكلّ تقاربًا وتفاهمًا يخمدان بعون الله نار “حروب الأديان” وسعير الفِتَن التي تخالف شرع الله وتهلك الإنسان. وتخترق العصور الكلمات السيّديّة: “أحبّوا أعداءكم… فإن كنتم تحبّون الذين يحبّونكم، فأيّ أجر لكم؟”. ويذكر المرء تحدّي القدّيس يوحّنا التلميذ الحبيب للعقليّة الفرّيسيّة “الثيوقراطيّة” الكاذبة التي تتستّر بعبادة الله كي تسحق البشر. ويدعو الرّسول يوحنّا المحبوب إلى المحبة الشاملة والمودّة الكاملة: “إذا قال أحد: “إنّي أحبّ الله” وهو يبغض أخاه، كان كاذبًا، لأنّ الّذي لا يحبّ أخاه وهو يراه لا يقدر أن يحبّ الله وهو لا يراه” (1 يو 4 : 20).
الأب د. بيتر مدروس – القدس
عن أبونا