حرارة خانقة هبطت على برلين. لم تكن الساعة قد بلغت الثامنة، لكن الضابط الأعلى رتبة الذي سيستقل طائرته من ميدان رانغزدورف العسكري يعاني بشكل خاص من جمرة القيظ الشديدة، رغم رشاقته الرياضية. في الواقع أن العقيد فون شتاوفنبرغ هو كبير من مشوَّهي الحرب. فقبل عامين وفي شمال إفريقيا، اصطدم بلغم، ما أدّى الى قطع ذراعه اليمنى وبتر إصبعين من يده اليسرى. كما فقد عينه اليسرى ووضع عصابة سوداء أخفت محجر العين الفاغر. كان وجه العقيد يرشح عرَقًا، يتغضّن ويضفي على شخصيته قناعًا مضطربًا ومأساويًا: منذ بضعة أيام، وبسبب حرارة الصيف الشديدة، أخذت جروح شتاوفنبرغ الكثيرة تتقيح مرة أخرى، وأصبحت كل لحظة في حياته مليئة بالمعاناة.
إنه يوم الخميس الموافق 20 تموز 1944. من المتوقع عقد المؤتمر في مقر الزعيم الساعة الواحدة ظهرًا كالمعتاد. والمقرر أن يقدم شتاوفنبرغ، بصفته رئيس أركان الخدمات العامة في القوات المسلحة، تقريرا على جانب عظيم من الأهمية.
فبالنسبة للرايخ، دقّت ساعة صيحة الهجوم: في النورماندي، نجحت عمليات إنزال الحلفاء؛ في إيطاليا، سقطت روما في 4 يونيو؛ في الشرق، يهاجم الجيش الأحمر في كل مكان، من بولندا إلى البحر الأسود، على جبهة طولها 1500 كيلومتر، بتفوق عددي ماحق. أما في ألمانيا فتقتصر الحركة على تعبئة آخر احتياطها البشري. السؤال: ما هو عدد الوحدات القتالية التي لا يزال من الممكن تشكيلها لتنضم الى القوات في الداخل؟ هذا ما يريد هتلر أن يعرفه على الفور. وقد تم تكليف شتاوفنبرغ بتقديم هذا التقرير إليه.
كان العقيد ومعاونه (الضابط المرافق)، الملازم أول فون هِيفتن الراكبين الوحيدين على متن الطائرة. وما هي إلاّ أن راحت طائرة النقل الضخمة من طراز يونكر تشق طريقها في عُباب السماء واندفعت باتجاه بروسيا الشرقية. فتح شتاوفنبرغ بذراعه السليمة المِحفظة الجلدية التي وضعها على ركبتيه. وراح يفتش بين الأوراق غرائزيًا عن العبوة الملفوفة في قميص سلّمه إياها في اليوم السابق أحد أصدقائه، الجنرال الصغير الأحدب هِلمُوت شْتيف.
الحزمة هناك. تحتوي على قنبلة موقوتة معدّة لتفجير هتلر.
ويتذكر شتاوفنبرغ قصيدة كتبها معلّمه القديم ستيفان جورج، عنوانها المسيح الدجّال تبدأ بهذا البيت المؤلم:
أمير الأوباش يوسع إمبراطوريته باستمرار …
إنه يوم مكفهر، بارد وممطر، لكن أحدًا لا يعيره اهتماما. (أمثولة صغيرة من الحياة مفادها أن المطر ليس شيئا يذكر مقارنة بإعصار أو زلزال. إذًا فلنتمتع بنعمة الماء ونتعلم كيف نصورها في أبهى أدائها.
في غضون ساعات قليلة، سيتم زرع القنبلة في مخبأ مركز القيادة، على بعد خطوات قليلة من هتلر. سينتهي كل شيء. ويتغير مصير ألمانيا. ما عساه يكون الرايخ (الدولة) في المستقبل؟
في وسط غابة كثيفة …
هبطت الطائرة في الساعة العاشرة والربع بالقرب من بلدة راستنبورغ في شرق بروسيا. إستقل العقيد والملازم فون هيفتن سيارة، لأنه لا يزال هناك ستة عشر كيلومترًا للوصول إلى المقر العام.
ندخل مملكة الغابة الساحرة: حتى في ذلك اليوم المشرق، كان الضوء بالكاد يشع عبر أشجار الصنوبر والزان والسنديان التي تحاصر بظلالها المتوعدة المنفذ الوحيد. من وقت لآخر تظهر بحيرة صغيرة بمياه ضاربة الى السواد. هناك في تلك النواحي المستنقعية من بحيرات مازور، أنهى الجنرال هيندنبورغ في أيلول 1914 الهجوم الروسي بفوزه الكبير في تانِنبِرغ. هناك، في عزلة مخيفة، بعيدًا عن أي مسكن، وبمنأى عن كل اتصال مباشر مع الجبهة ومع ألمانيا، جاء هتلر ليستقر، في اليوم التالي لمعركة ستالينغراد.
المقر الكبير يشبه معسكرًا محصّنا. ثلاثة أسوار متراكزة (مشتركة المركز) من الأسلاك الشائكة المكهربة؛ كل ثلاثين مترا، نقاط تفتيش أو أبراج مراقبة؛ في كل مكان أفراد من قوات الحماية الخاصة (إس إس). على جانبي الطريق، الغابة ملغومة بالكامل. عند مدخل كل سور، يطلب الحراس بطاقة مرور مختلفة صالحة ليوم واحد.
“عرين الذئب”
تفتيش جديد، إجازة جديدة لإبرازها إلى قوات الحماية الخاصة؛ بعد اجتياز المعسكرات المموّهة للقوات والشرطة الإدارية، تدخل في نهاية المطاف قدس الأقداس،”عرين الذئب“. المنطقة المخصصة للزعيم. هناك يقيم هتلر في منزل صغير، في جزء منه تحت الأرض، مزوّد بملجأ مصحّف، حيث تُعقد مؤتمرات أركان الحرب، “شيء مثل دير مبطّن بمعتقل”، على حد قول الجنرال يودل في محاكمات نورمبِرغ:
سيد ألمانيا تحت حراسة مُحكَمة. فالخطيب الشعبي الفذّ، الذي بدا غير قادر على العيش دون التواصل الروحاني مع جماهير العُبّاد الغفيرة، قد سجن نفسه في هذا المخبأ المشؤوم. هناك يعيش حياة الزهد، بالكاد يتناول الطعام، ينام ليلاً لساعات قليلة، ويتجرّع بطاعة الأدوية غير الناجعة لوصفة طبيب دجال. بيد أنه لا يزال هو الزعيم، منفصلاً عن سائر البشر في مِثل طاغية من الشرق القديم، مستسلم تمامًا لمصيره، وفيّ بيأس لأحلامه، مجهدًا نفسه عبثًا للدفع بفِرق عسكرية أكثر فأكثر شبحية على خرائط كبرى.
– لن أستسلم أبدًا، قالها قبل خمس سنوات تقريبًا، معلنا الحرب أمام المجلس النيابي للرايخ. لن يكون لألمانيا مرة أخرى تشرين ثاني 1918!
يفي الزعيم بوعده. رغم الكوارث، وصفوف الأسرى الألمان الطويلة التي تمتد على طول طرقات روسيا المحررة، وآلاف أطنان القنابل التي انهمرت على مدن الرايخ المدمرة والمحترقة.
بدء المؤتمر
كانت أوراق شتاوفنبرغ والضابط المرافق في أحسن حال. اجتاز الضابطان جميع الحواجز بلا عائق. عند الظهر، بعد تناول الفطور في نادي الضباط، توجه العقيد لتقديم نفسه الى القائد الأعلى للقوات المسلحة المارشال كايتِل.
“هناك تغييرات اليوم”، قال كايتل. الزعيم يترقب زيارة موسوليني بعد ظهر اليوم. لذلك تم تقديم موعد المؤتمر نصف ساعة. وسيعقد في تمام الساعة الثانية عشرة والنصف. لن نجتمع في الحصينة تحت الأرض كالمعتاد. درجة الحرارة محرقة، زِد على أن العمال يقومون بتصليحات هناك. ملتقانا إذًا في رَدهة الضيوف.
إنه مبنى خشبي طويل ملاصق لسكن هتلر. في غمضة عين، تذكر شتاوفنبرغ فجأة أن جدران تلك القاعة لن تصمد أمام عَصف الإنفجار: فيتضاءل الأثر المدمر للقنبلة بشكل خطير! لكن الوقت قد فات الآن للتراجع.
قبل التوجه إلى القاعة، أمكن العقيد أن يتوارى للحظة دون أن يلاحظه أحد. وبأصابعه السليمة، قام بتشغيل صاعق العبوة الموقوتة، مستعينًا بذراعه الإصطناعية. ثم انضم الى كايتل على جناح السرعة ودخل قاعة المؤتمرات بصحبة المارشال.
بدأ المؤتمر. مال حوالي عشرين جنرالًا وأدميرالًا وضابطًا برتبة عالية على طاولة كبيرة مغطاة بخرائط أركان الحرب. لا هيملر ولا غورينغ كانا موجودين. جميع الحاضرين واقفون، باستثناء المختزل (مدوّن الأقوال) وسكرتير هتلر الخاص الذي يسجّل ملاحظات. أما الزعيم الذي يحمل في يده نظارة عاج، فكان يتابع البيان بأكبر قدر من الإنتباه. خلال الأشهر القليلة الماضية علا الشيب صدغيه، وانحنى ظهره، وأخذت رعشة خفيفة تهز فكَّيه. ومع ذلك ما زالت تنبعث من هذا الرجل الذي سبق له أن ذاق طعم الهزيمة، قوة ساحرة مزعجة. من بين الجنرالات المجتمعين هناك قلّة يعتقدون أن ألمانيا يمكن أن تنجو من الكارثة. لكن أحدًا لن يجرؤ على قول ذلك للزعيم
̶ ستقدّم تقريرك فورًا بعد انتهاء الجنرال هُويزِينغر من إلقاء كلمته، همس كايتل في أذن شتاوفنبرغ. لا تبتعد عن الفورر.
كل العيون شاخصة تتابع تطور العمليات على الخريطة. أما شتاوفنبرغ فقد وضع محفظته برفق أمام رِجل الطاولة، الأقرب إلى هتلر.
سأترك هذا هنا الآن، قالها لجاره الجنرال برانت. يجب أن أجري مخابرة هاتفية في غرفة الانتظار.
خرج دون أن يلاحظ أحد. وتابع الجنرال هويزينغر تقريره. مع اقتراب المؤتمر من نهايته استدار كايتل، وراح يبحث بناظريه عن الضابط الذي يجب أن يلقي كلمته الآن. لا أحد.
̶ ولكن أين شتاوفنبرغ؟ سأل الجنرال بُوله. الكلمة له!
في هذه اللحظة، انتهى الجنرال هويزينغر من إلقاء تقريره جِدّ المتشائم:
قال: الروس يتحركون بقوات كبيرة الى غرب دفينا باتجاه نوردن. عناصرهم المتقدمة بلغت بالفعل جنوب غرب دْفينسك. إن لم نتمكن من سحب قواتنا من بحيرة بيبوس …
… قنبلة إنفجرت
إنها الساعة الثانية عشرة والخمسين. في هذه اللحظة اهتزت القاعة كما لو أن زلزالاً ضربها. فتحطمت النوافذ وانهار السقف وسحقت الطاولة الكبيرة. وارتفعت من التخشيبة على الفور سحب كثيفة من الدخان. من الخارج تسمع نداءات مشوشة إختلطت بأنين الجرحى والمحتضرين. كانت الصدمة عنيفة لدرجة أن بعض المساعدين قد قُذف بهم عدة أمتار من المبنى. أحدهم، العقيد فون جون، نهض سليمًا وراح يركض نحو مركز الحرّاس وهو يصرخ،
̶ اعتداء! اعتداء!
كان شتاوفنبرغ يراقب المشهد بأكمله. فور زرع قنبلته توجه نحو سيارته التي كان الملازم فون هيفتن قد ركنها على بعد مئة خطوة تقريبا. كان المتآمران جالسين في السيارة، ومحركها شغّالاً عندما شاهدا قاعة المؤتمرات تنفجر. في خضم هذا الهلع المسيطر الآن، لم يتنبه إليهم أحد. من خلال الدخان واللهب، أمكنهما التمييز بوضوح بين حاملي الجرحى الذين أسرعوا الى المكان، والجثث التي ينقلون:
لقد رأيت للتو جثة هتلر، صاح شتاوفنبرغ بأعلى صوته. هيّا نختفي بسرعة عن الأنظار!
هرب شتاوفنبرغ
إنطلقت السيارة كالإعصار. التدقيق الأول. ضابط من قوات الأمن الخاصة يقف في طريقهما:
̶ مهمة عاجلة، صرخ شتاوفنبرغ. يجب أن أستقل الطائرة إلى برلين على الفور. باسم الزعيم!
أصبحت هذه العبارة الأخيرة المفتاح السحري في ألمانيا:
̶ لا بأس، قال رئيس نقطة المراقبة المذهول.
في المكان المسوَّر الثاني، ثم في الثالث، الرواية ذاتها والنجاح عينه. كان المتآمران بالتأكيد محظوظين الى أبعد حد. مردّ ذلك، في جزء منه، إلى الذعر الذي عمّ المعسكر جراء صوت الانفجار، وفي جزء آخر الى الشخصية المهيبة التي يتمتع بها العقيد كلاوس فون شتاوفنبرغ. هذا البطل الجريح المشوَّه، الذي تزين صدره بأوسمة مرموقة، كيف يمكننا أن نصدق للحظة أنه هو الذي قتل الزعيم للتو؟
في الساعة الواحدة والربع ظهرًا، أقلعت طائرة شتاوفنبرغ من مطار راستنبورغ. بعد مضي أقل من نصف ساعة على الانفجار.
المؤامرة
برلين، شارع بندلر شتراسه. رغم الشمس والحر الشديد، ظل الحراس المناوبون خارج وزارة الحرب مسمّرين في أماكنهم معتمرين خوذهم. السماء صافية، مع ذلك لم يتم حتى الآن الإبلاغ عن أي هجمات جوية معادية على أراضي الرايخ. العاصمة تبدو هادئة الى حد كبير. بعد استراحة الغداء، عاد الموظفون إلى عملهم بالقمصان ذات الأكمام الطويلة، والسترات على الأذرع. أما النساء فكنّ يرتدين فساتين خفيفة، في حين اعتمرت الأكثر أناقةً قبعاتهن الضخمة – آخر صيحات الموضة الباريسية.
في الطابق الثاني من الوزارة الجو مختلف تماما. فقد اجتمع في مكتب الجنرال أولبيشت والغرف المجاورة حوالي 20 ضابطًا. وجوه شاحبة، ملامح مستمدة من أناس قضوا ليلة من الحَصر النفسي. بعضهم يدخنون سيجارة تلو الأخرى، وآخرون يتجهون إلى النافذة بعصبية، ويطلّون منها نحو الشارع، كما لو أنهم يترصدون أحدًا.
أولئك الرجال هم شركاء شتاوفنبرغ، الضالعون في مؤامرة 20 تموز. فعلى مدى أشهر وسنوات، عاش كثيرون منهم، على هامش مناصبهم الرفيعة في خدمة القوات المسلحة، حياة سرية مليئة بالمخاطر. كل صباح، كان المتآمرون يخشون إيقاظهم بجرَس الغستابو المحتَّم. بالصبر وطول الأناة، والتمهل، وبعد الكثير من التردد، تغلبوا على الكثير من المخاوف، وتوصلوا إلى استنتاج مفاده أنه لا يمكن إنقاذ ألمانيا من الإبادة الكاملة إلا باغتيال هتلر. وها انهم لا ينتظرون الآن سوى تأكيد الهجوم لشن “عملية فالكيري” – أي الانقلاب العسكري الذي يجب أن يطيح بالنظام النازي.
… والدوافع
ما هي الدوافع القوية التي يمكن أن يطيعوها للشروع في مثل هذه المغامرة الخطرة؟ إنهم بالتأكيد ليسوا شيوعيين! وإذا كانوا يتآمرون الآن مع مدنيين ليبراليين، مثل غورديلر، عمدة لايبزيغ السابق، وأصدقائه، فإن جمهورية فايمَر الراحلة لا تثير الأسف بينهم. حتى أن العديد من أولئك المتآمرين رحبوا بحماس بميلاد الرايخ الثالث، وإعادة التسلح الألماني، وضم النمسا وتشيكوسلوفاكيا: فلا يزال لديهم أصدقاء في الحزب، كما أن أحد أوثق مخبريهم هو من أصحاب الرتب العالية في قوات الحماية الخاصة وصديق مقرب لهيملر…
إن ما يوحدهم حقًا، في الواقع، هو الشك واليأس: ما عادوا يؤمنون بالنصر ويريدون إنقاذ ألمانيا. هم الذين، مثل بيك، رئيس الأركان العامة السابق، يمكنهم التباهي بأنهم كانوا على بيّنة من هتلر منذ 1938. على العكس من ذلك، راح الجميع تقريبا يتملقون بفرح الزعيم المنتصر عامي 1940-1941. لكن الهجوم على روسيا هو الذي بدأ يقلقهم. ثم جاءت ستالينغراد، في كانون ثاني 1943، لتخرجهم تمامًا من سباتهم. ولأول مرة، قادت غرائز العريف الإحترابية الجيوش الألمانية إلى البليّة. وها ان الجنرالات لا يزالون يخشون الفورر؛ لكنهم ما عادوا يؤمنون به. فبالنسبة إليهم، يجب أن يكون مستقبل ألمانيا من الآن فصاعدًا ضد هتلر.
المطلوب إذًا الإنتظام والتصرف. أما بالنسبة بالنسبة للرايخ، هناك مخرج واحد لا غير: عقد سلام منفصل مع الأنكلوسَكسونيين من أجل توجيه كل قواهم ضد البلشفية. لكن ألم يفت الأوان؟ في مؤتمر الدار البيضاء مطلع 1943، أعلن الرئيس روزفلت رسميًا عن عزم الحلفاء بالإجماع على القتال حتى استسلام ألمانيا غير المشروط. إذا كان الأمر كذلك حقًا، فما الجدوى من محاولة التخلص من هتلر؟
ومع ذلك، كانت المعارضة العسكرية تتشبث بالأمل:
̶ نقضي اولا على النظام النازي، هذا ما كان يفكر فيه الجنرالات والمدنيون داخل المعارضة. كيف يمكن للأنكلوأميركيين إذًا أن يحرمونا من السلام المشرف الذي نصبو إليه؟
لكن عامًا ونصف قد مرّا منذ ستالينغراد. وباتت الكارثة النهائية على باب قوسين. وهتلر لا يزال على قيد الحياة.
إذًا ماذا فعل المتآمرون؟ في ذلك اليوم المصادف 20 تموز 1944، أمكنهم بشيء من المرارة الحُكم في نتائج أنشطتهم الخطيرة خلال الخمسة عشر شهرًا المنصرمة: أربع محاولات اعتداء، أربعة إخفاقات! في كل مرة، كان الفورر ينجو من قتلته، بشبه معجزة. كيف تدرك الطاغية غير المرئي، الذي نادرا ما يترك عرينه في بروسيا الشرقية ؟ تنقلاته القليلة جدا محاطة بحذر غير عادي. هل تحدُث اليوم أم غدا؟ عن طريق البر، بالطائرة أو بالقطار؟ حتى أعظم القادة ليسوا على علم بشيء. عندما يتم الإعلان عن زيارة يقوم بها الفورر لقطاعهم، يقضون وقتهم في توجيه الأوامر الى حرس الشرف وإلغائها. في غالب الأحيان يظهر هتلر فجأة، متأخراً عدة ساعات. وأحيانًا يختصر زيارته دون سبب واضح – إلا إذا تولّى إلغاءها بنفسه.
ومع ذلك، لم تكن الظروف مواتية أبدًا كما هي اليوم. أما شتاوفنبرغ، الخيالي، المثالي، فإن باستطاعته التغلب على القدر. وهذه هي المرة الأولى التي تحظى المؤامرة بقاتل كان له حق الدخول رسميا الى مركز القيادة العامة.
قلق في برلين
مضت ساعة كاملة. ساعتان … الحالة العصبية تغلب على المتآمرين في شارع بندلرشتراسه.
̶ ما عساه يفعل فِلغيبل؟ صرخ بيك.
الجنرال فلغيبل، رئيس قسم الإتصالات المشفّرة في راستنبورغ، هو أحد أفراد المؤامرة الأكثر وثوقًا. دوره في “عملية فالكيري” في غاية الخطورة. فهو الذي يجب عليه في الواقع إبلاغ مكتب الجيش العام فور وقوع الانفجار، ثم تخريب مقسم الهاتف من أجل عزل مركز القيادة عن سائر ألمانيا.
لكن فلغيبل لم يتصل بعد.
لتبديد قلق أصدقائه، يلخص الجنرال أولبريشت للمرة الأخيرة المرتكزات الرئيسة التي بحوذته.
– في برلين نفسها، يسير معنا بالكامل كل من هيلدورف، مدير الشرطة، وفون هازه، قائد الموقع. ينتظران أوامرنا. ويترتب على العديد من أفواج المشاة والدبابات التحرك نحو العاصمة لتطويق وزارات وثكنات قوات الأمن الخاصة. بمجرد بدء العملية، سيجري اعتقال غوبلز. في المقاطعات، يمكننا الاعتماد بشكل مطلق على قادة شْتِتّين وبراغ وفيينا. لكن موقعنا الأقوى هو في الغرب. فون شتولبناغل سيطلق العملية في باريس بإشارة منا. وسينضم فون كْلوغه (القائد العام للقوات المسلحة في الغرب) دون أدنى شك فور علمه بنجاح الإعتداء…
الثالثة والربع عصرًا. أخيرًا رن الهاتف. على الخط يُسمع صوت شتاوفنبرغ.
– نحن في المطار. أرسل لنا سيارة … هتلر مات.
“العناية الإلهية أنقذني”
في هذه اللحظة بالذات، كان الزعيم، الذي التفّ بمعطف كبير، رغم الحرارة الشديدة، يسير على رصيف محطة مركز القيادة بانتظار القطار الخاص الذي سيُحضر الدوتشه (موسوليني) والمارشال غرازياني.
̶ العناية الإلهية أنقذتني، يكرر هتلر. هي تريدني أن أنجز مهمتي حتى النصر النهائي.
مرة أخرى، حدثت المعجزة بالفعل. دعونا نعود للحظة إلى أنقاض قاعة المؤتمرات، بعد الانفجار مباشرة. ينهض كايتل: الفورر هو الأول الذي خطر في ذهنه. والحال أن هتلر موجود هناك، منهار على الأرض على حافة الحاجز، مرهقًا بعض الشيء، وقد شِيط شعره بالنار، واحترقت ساقه اليمنى، وشُلّت ذراعه اليمنى تقريبًا. يسمع بصعوبة. لكنه حيّ. حتى أنه يظهر رباطة جأش لافتة للنظر.
– (وا) أسفاه! سروالي الجميل الجديد! قال لكايتل الذي يساعده كي ينهض. فليُحضَر لي لباس عسكري آخر!
بعد ثلاث ساعات، إسترجع قواه تقريبًا وراح يتفقد مع موسوليني بعَضُده المعلّق على الصدر، مكان الإعتداء.
كيف أستطاع إذًا أن ينجو من الموت ؟ يبدو أنه بعد انسحاب شتاوفنبرغ قام ضابط بصورة عفوية بإزاحة الحقيبة التي تحتوي على القنبلة. مع ذلك قُتل على الفور سكرتير هتلر وضابطان كانوا بجانبه. وأصيب العديد من المعاونين الآخرين بجروح خطيرة، بينما خرج هو برضوض بسيطة. فبالنسبة لحالم مثله، هناك الكثير مما يدعو للإعتقاد بوجود حماية خاصة توفرها العناية الإلهية.
على الفور، بدأ رجال الشرطة التابعون لهيملر تحقيقاتهم. الاستنتاج الأول: تم وضع القنبلة في القاعة. لم يتأخر التحقق من مدبّر الإعتداء: ضابط واحد فقط غادر قاعة الاجتماعات؛ ضابط واحد فقط ترك المعسكر فور وقوع الانفجار بدعوى القيام بمهمة عاجلة. ولكن أين يمكن أن يكون شتاوفنبرغ الآن؟ هل تصرف بمفرده؟ أم انه يجب التصدي لمحاولة انقلاب؟
في خضم هذا الضياع، طلب الزعيم التكتم على خبر الإعتداء، أقلّه إلى حين.
في الوقت الذي بدأ هتلر وموسوليني محادثاتهما في مقر القيادة العامة، دقت مخابرة شتاوفنبرغ الهاتفية في برلين، بوزارة الحرب، ساعة الإستعداد للقتال.. أما الجنرال أولبريشت فقد قرر، قبل إطلاق “عملية فالكيري”، إطلاع رئيسه المباشر، الجنرال فْروم، قائد جيش الداخل، على الوضع. غير أن هذا الأخير كان على مدى أشهر يتردد، يوافق ويستدرك. وكونه نازيًا صَلبا حتى ذلك الحين، فهو من المكر والدهاء بحيث يدرك أن الموقف تغيّر. لكنه لن يتورط قبل أن يحصل على ضمانات أكيدة.
لقد جعله خبر موت هتلر في حذر المرتاب:
̶ “يجب أن أطلب إثباتًا من كايتل”، قال لـِ أولبريشت. سأتصل بمركز القيادة.
̶ لا داعي لذلك، جنرال، لن تتمكن من الإتصال براستنبورغ، حيث أن مقسم الهاتف هو خارج الخدمة الآن.
مع ذلك، وبعد بضع دقائق، دخلت القيادة العامة على الخط، بسرعة مذهلة. كان أولبريشت، الذي يمسك بسمّاعة الهاتف، يُصغي الى هتافات كايتل:
̶ كلاّ ثم كلاّ، كلام فارغ، قال المارشال. صحيح أنه حصل اعتداء، لكنه فشل. وقد أصيب الفورر بجروح طفيفة فقط. هو يجتمع حاليا إلى الدوتشه …
غادر أولبريشت مكتب رئيسه وهو في حيرة من أمره، وذهب للانضمام إلى أصدقائه؛
̶ كايتل يكذب، قال لهم. ما علينا سوى أن نستغني عن فروم ونطلق “عملية فالكيري” على الفور. سأتصل بهِلدورف في المديرية.
كان صوت مدير الشرطة يرنّ عبر الجهاز، مختنقا من القلق.
-آه! وأخيرًا، هذا أنت أيها الجنرال! أين هي التوجيهات التي وعدتني بها؟ خريطة برلين التي أرسلتها لي للتو ترقى إلى العام 1942 – قبل الغارات الكبرى بالقنابل! أنت تدرك جيدًا أن العديد من الدوائر انتقلت منذ ذلك الحين. ما هي المعلومات التي لديك عن قوات الشرطة الخاصة؟ كم تبلغ أعدادهم؟ توزيعها في العاصمة؟ الضابط الذي بإمرتك لم يستطع الإجابة! أخشى الأسوأ. إذا استمر ذلك على هذا النحو، فسيكتسحوننا.
“عملية” تبدأ بائسة
بدأت “عملية فالكيري” الشهيرة بشكل سيئ للغاية. يبدو بيك قلقًا.
̶ بما أن كايتل يهاتف من راستنبورغ، إذًا هناك ناجين. ماذا لو خرج هتلر معافى؟
الوقت يمر والمتآمرون لا يزالون مترددين في شن العملية. الساعة تقارب الخامسة. فجأة فُتح الباب، إنه شتاوفنبرغ. الجميع يحيطون به ويضيّقون عليه في الأسئلة:
̶ قاعة المؤتمرات دُمرت كما لو أن قذيفة مدفع عيار 150 أصابتها، كرر القول. كان الانفجار هائلا. رأيت الأجساد التي قذفها عصف الإنفجار بعيدا. يستحيل أن يكون هناك ناج واحد!
̶ بلى، كايتل! اتصل لحظات!
̶ قد يكون كايتل نجا من الموت، أجاب شتاوفنبرغ دون تردد، لكن هتلر مات: رأيته بأم عيني على نقالة.
فجأة يعود الحماس بين المتآمرين. فتم على الفور تشغيل الثمانمئة خط هاتفي وتلغرافي الخاصة بالوزارة: إلى جميع مقاطعات الرايخ، إلى البلدان المحتلة، إلى قطاعات الجبهة، ونقل الخبر العظيم مرمّزا: “هتلر مات. الجيش يتولى كافة السلطات. نفذوا “عملية فالكيري” حسب الخطة المرسومة. ”
في تلك الأثناء، كان أولبريشت وشتاوفنبرغ في مكتب فْرومّ لإقناعه بالانضمام إلى الانقلاب.
̶ قال شتاوفنبرغ: “لقد جهّزت صاعق القنبلة بيدي ورأيت جثة هتلر تُخرَج من تحت الأنقاض.”
وقف قائد قوات المقاطعة شاحبًا، وقد أصابه الذهول والإرتباك:
̶ ما عليك سوى أن تطلق النار على رأسك، قالها آخر الأمر لـ شتاوفنبرغ، لأن محاولتك فشلت. أولبريشت، أنت موقوف.
̶ أنت مخطئ، حضرة الجنرال، نحن من يوقفك!
سحب فروم مسدسه. لكن المتآمرين إنقضّا عليه وجرّداه من سلاحه وألقيا به بعنف على كرسي. ورغم صراخه، تم حبسه في غرفة محكمة الإقفال تحت حراسة مشددة.
بينما تجلّى للعَيان في شارع بندلر شتراسه مشهد العنف هذا، غير المسبوق في تاريخ الجيش الألماني، كانت دوائر إذاعة الرايخ تستعد لبث برنامج خاص. في الساعة السادسة مساء، توقفت الموسيقى فجأة. وسمع صوت مذيع يقول:
̶ يفيد مقر الفورر بما يلي: وقع هجوم على الفورر، لكنه فشل. أصيب الزعيم بكدمات طفيفة فقط. إستقبل الدوتشي، والمحادثات تسير حسب البرنامج المقرر. سيتوجه الفورر بكلمة الى الشعب الألماني في المساء.
نظر متآمرو الوزارة بعضهم إلى بعض مذهولين، مضطربين. وقبّض القلق وجوههم. وبإيماءة عصبية، رفع الجنرال هِلموت شتيف، الذي جرّت عليه قامته القصيرة ولسانه الخبيث لقب”القزم السام” يده إلى عنقه، كما لو أنه يتحسس بالفعل احتكاك الحبل.
فون كْلوغِه يحتفظ بالرد
في ذلك اليوم المصادف 20 تموز 1944، انطلق المارشال فون كلوغه، القائد العام للقوات المسلحة في الغرب، في جولة تفقدية على جبهة النورماندي. الوضع لا يزال مقلقًا بالنسبة له. ففي الثامن عشر من الشهر، وبعد قصف عنيف لم يسبق له مثيل، شن مونتغومري هجومه الكبير جنوب كاين: اثنا عشر ألف طن من القنابل أُلقيت على المواقع الألمانية؛ ألف دبابة للحلفاء مقابل ثلاثمائة فقط للفيرماخت (القوات المسلحة). الأميركيون أسياد الجو بالمطلق. مع ذلك، السماء تَغيم، وبدأ المطر يتساقط. في ذلك الصباح، منذ أن استيقظ، راح فون كلوغه ينظر إلى الغيوم المظلمة التي تثقل على النورماندي المدمرة:
̶ لا توجد طائرات معادية حتى اللحظة، تمتم بارتياح.
̶ ما كادت المعركة تبدأ حتى توقفت. وتم احتواء الهجوم المعادي. لكنها مجرد مهلة. إلى متى؟
عاد المارشال مشغول البال إلى مقره في لاروش – غِيون حوالي السادسة مساءً. لم يكن يعرف شيئا عن الهجوم. إلاّ أنه سئم الحرب، وتعب من هتلر وجنونه الأعمى. هل يتخذ قراره في نهاية الأمر؟ ينضم إلى مؤامرة الضباط؟ على جميع تلك الإقتراحات التي عرضت عليه، كان يرد بأعذار واهية. حتى أن حذره السياسي أصبح مَضرِب المثل في القوات المسلحة، ويتلهى أصدقاؤه المقربون بنعته “هانز الشاطر”. مع ذلك على بدا على فون كلوغه قبل بضعة أسابيع، وكأنه على وشك أن يرضخ للضغوط:
̶ “طبعا، إذا اختفى هتلر، أنضمُّ إلى انقلاب عسكري، قالها لمبعوث تآمري.
بالنسبة لفون كلوغه، حان وقت الاختيار. ما ان أتيح له أن يسمع البيان الخاص من الإذاعة الألمانية حتى رن جرس الهاتف في مكتبه. هنا برلين، بندلر شتراسه. على الخط بيك، الرجل الذي يستعد ليحل محل هتلر باعتباره “وصيّا” على الرايخ.
̶ هل أنت مستعد للسير معنا علانية ؟ سأل فون كلوغه.
̶ لكن الفورر حيّ، أجاب المارشال، هذا ما أعلنته الإذاعة من هُنيهة.
̶ إنها خدعة هيملر والقوات الخاصة، أكد بيك.
فون كلوغه يتردد. تبدو له إيضاحات بيك جِدّ مرتبكة:
̶ سأعاود الاتصال بك بعد نصف ساعة. يجب أن أستشير مجلس قيادتي.
لكن فون كلوغه لم يعاود الاتصال. كان ينتظر الجنرال فون شْتولبْناغِل، الذي استدعاه على الفور. في الواقع أن القائد العام في الغرب لا يجهل أن الحاكم العسكري لباريس الكبرى هو رأس المؤامرة في فرنسا المحتلة. ففي فندق رافايل، شارع كْليبِر، تم اتخاذ الإجراءات منذ ما بعد الظهر: كل شيء جاهز للقبض الفوري على قوات الأمن الخاصة في العاصمة. يبقى شيء مجهول واحد: موقف عناصر السلاح الجوي والبحرية الحربية، الذين يُعرف قائداهما، المارشال شْبِرلِه والأدميرال كرانكه، بميولهم النازية.
في لاروش غِيون
كانت الساعة حوالي السابعة والنصف مساء عندما وصل الجنرال فون شْتولبْناغِل، الذي غادر باريس بالسيارة، إلى لاروش-غيون. ما إن دخل مكتب فون كلوغه حتى وجه إليه نداء مؤثّرا. لكن فون كلوغه راح يهز رأسه بعناد:
̶ ليس ثمة ما يمكن فعله، لقد فشل الإعتداء.
̶ ما بالك؟ أبدًا!، سيدي المارشال. لم ينته كل شيء. حتى لو لم يمت هتلر، وفشل المتآمرون في برلين، فإننا نستطيع القيام بشيء في الغرب. لقد وعدتَ بأن تقوم بمحاولة، وأعطيتنا كلمة شرف. يجب عمل شيء ما.
إستمر النقاش على هذا النحو. وبقي فون كلوغه متقطِّب الوجه. ثم نهض فجأة، كي يضع حدّا لما يجري، وقال بنبرة حادة ومبهجة:
̶ دعونا لا نتحدث في هذا الموضوع بعد الآن. الفورر لا يزال حيّا. هيّا نجلس إلى الطعام…
بعد العشاء، قاد شْتولبْناغِل فون كلوغه إلى أحد أبواب الفناء الكبيرة التي تفتح على شرفة القلعة.
̶ سيدي المارشال، لا يمكنك التراجع. قبل مغادرتي باريس، أصدرت أوامري. في هذه الأثناء، تكون قوات الأمن الخاصة قيد الإعتقال.
إرتعش فون كلوغه واضطرب. لكن تردده لم يدم طويلا.
̶ أنت وحدك تتحمل نتائج أفعالك، قالها لِ فون شْتولبْناغِل. عُد على الفور إلى باريس. لكن صدقني، خذ معك ملابس مدنية واختبئ. هذه نصيحة من صديق.
في ضمير مارشال مكسوف مفعم بالأمجاد، بات مصير الجيش الألماني في الغرب على المحك: لا شيء سينقذه من الدمار الشامل بعد الآن. عندما غادر الجنرال فون شْتولبْناغِل روش غيون، كانت الساعة حوالي التاسعة مساءً. في غضون ذلك، بدأت الأحداث تتسارع في برلين.
هل يقوم الرائد ريمر باعتقال غوبلز؟
لنعُد قليلا إلى الوراء، إلى فترة ما بعد الظهر. فبينما كان أولبريشت وبيك وأصدقاؤهما ينتظرون في أحد مكاتب وزارة الحرب بلهفة، عودة شتاوفنبرغ، كان هناك بضواحي العاصمة، في معسكر دوبِريتس، رجل يرتع في حيرة وارتباك تماثل تلك التي وقع فيها متآمرو بندلر شتراسه. إنه الرائد أوتو – إرنست ريمر، بطل الجبهة الروسية، أصيب بجراح ثماني مرات، وقلّده هتلر شخصيا وسام الصليب الحديدي من رتبة فارس، قائد كتيبة الحرس، الذي تلقى من قائد موقع برلين، منذ لحظات، أمرًا مرعبًا: مات الفورر، وعليه، ريمر، أن ينتقل مع وحدته على الفور، إلى وسط العاصمة لاعتقال أحد أقوى رجالات ألمانيا – الدكتور يوزِف غوبلز، وزير الرايخ وقائد منطقة برلين.
مهمة كهذه كافية لتخويف رجل صلب من طينة ريمر. قبل أن يتخذ قراره، حفظ ريمر خط الرجعة: سوف يستشير الملازم هاغن، الذي يتقلد في كتيبة الحرس وظيفة “ضابط الإدارة”، بمثابة مندوب حزبي، مسؤول عن محاربة كل علامات الانهزامية داخل الفوج:
̶ يبدو لي كل هذا مريبًا، قال هاغن: فالإذاعة لم تشِر بكلمة واحدة إلى موت الفورر. قبل أن أنفّذ الأمر، أنصحك بالحصول على إثبات.
̶ ولكن من سيعطيه لي؟
̶ غوبلز بنفسه، أجاب الملازم هاغن:. لو مات الفورر حقًّا، لكان أول من علم بالخبر.
أمر ريمر على الفور بتسليم مرؤوسه دراجة نارية، وعهد اليه بمهمة الإستعلام لدى وزارة الدعاية. ثم، وبدون تأخير، وكعسكري منضبط، أخذ رجاله على متن شاحنات وانطلقوا إلى برلين.
بعد قليل، أثار البيان الخاص الذي بثته الإذاعة وتناول الإعتداء الفاشل على حياة هتلر الذهول في ألمانيا. عند السادسة والنصف مساء، أدرك الموظفون الذين بدأوا في مغادرة مكاتبهم، بلحظة، خطورة الموقف. فالمشهد في الشارع غير عادي. المربّع الذي تتمركز فيه الوزارات مطوّق، والجُند يحاصرون بعض المباني الرسمية. وعلى الرغم من الشكوك التي تحيط به، كان الرائد ريمر مع كتيبته من الحرس بعد الظهر ينفذ الأوامر بدقة وانتظام.
ما أن انتهى من تقديم تقرير عن مهمته إلى قيادة الجيش حتى جاءه ساع يسلّمه رسالة عاجلة من هاغن: يجب على الرائد ريمر أن يحضر فورًا إلى غوبلز في وزارة الدعاية. بأمر من الفورر، أضافت الرسالة.
مد غوبلز يده الى الضابط. وكرر بقوة ما جاء في البيان الإذاعي: الفورر حي وسيتكلم مساء اليوم. الرائد ريمر في حيرة من أمره أكثر فأكثر.
̶ الرائد ريمر، هتف غوبلز فجأة، هل تريد التأكد بنفسك من أنني أقول الحقيقة؟ هل تود التحدث إلى الفورر؟
̶ بعد بضع دقائق، تم الإتصال بمقر القيادة العامة. تفوّه غوبلز ببضع كلمات ثم ناول ريمر السماعة:
̶ هل عرفتني، رائد ريمر؟
لا رَيب فيه: من المؤكد أن ريمر كان يسمع، بانفعال شديد، صوت الرجل الذي قلّده شخصياً، قبل أسابيع قليلة، وسام الصليب الحديدي من رتبة فارس.
̶ نعم، سيدي الفورر، تلعثم ريمر، أعرفك.
̶ رائد ريمر، عاد صوت سيد ألمانيا، تقبّل الأوامر التي أقدمها لك. لديك منذ الآن السلطة الكاملة لقمع التمرد في برلين. حتى على الجنرالات، حتى على المارشالات. أخمد بلا رحمة كل مقاومة. اقتل كل من يعترضك. عليك أن تتصرف مباشرة باسم الفورر!
وضع ريمر السمّاعة. بدا وكأن وجهه تغيّر. إنه يعرف الآن مكان واجبه. عند مغادرته وزارة الدعاية، صادف كتيبته التي كانت تتحرك، وفقًا لتعليماته عينها، نحو ساحة فيلهلم بْلاتْس للتأكد من شخص غوبلز.
– قفوا! صرخ ريمر. نحو شارع بندلرشتراسه! إلى الأمام!
المؤامرة ترمي آخر ورقة في يدها
في وزارة الحرب، يسود الآن أكبر ارتباك. وبهدوء أقرّ المتآمرون بالحقيقة الرهيبة: هتلر حي ومحاولة الإغتيال فشلت. إنهم يعرفون الآن أن ساعتهم اقتربت. لكنهم يلعبون كل أوراقهم. وهل بمقدورهم أن يفعلوا غير ذلك؟
يذهل شتاوفنبرغ الجميع بطاقته المذهلة. إنه ينهمك من هاتف إلى آخر. يتواصل مع فيينا، ميونخ، باريس، درِسدِن، ويحرك بشدة عواطف القادة العسكريين في الجبهة والداخل، يسابق الزمن مع القدر، مزيلاً الشكوك، ومؤججًا الحميّة الخائرة ̶ وحده ضد قوى الرايخ العظيم الدعائية جميعًا، ضد الإذاعة التي تكرر بياناتها، ضد كايتل الذي يطلق أوامره من راستنبورغ، ضد هيملر الذي يحشد الغستابو وقوات الحماية الخاصة التابعة له.
مع ذلك كشفت “عملية فالكيري” من حوله عن عدم استعداده المفجع. ومن خيبة أمل إلى أخرى، شعر المتآمرون، طوال ذلك اليوم العاصف، بأنهم ينزلقون نحو النهاية المحتومة. فلا مركز القيادة تفجر ولا مقر الإذاعة أمكن احتلاله في الوقت المناسب. وظلّت القوات التي تم الاعتماد عليها محتجبة. كما ان الأوامر قد أرسلت متأخرة جدا أو لم ترسل أبدًا. أما قوات الأمن الخاصة فكانت تلازم ثكناتها بهدوء. وراحت قوات الشرطة السرية (الغستابو) تترقب لحظة التضارب في مقرها العام الواقع في شارع الأمير ألبرِشت شتراسه.
إعتبارًا من الساعة الثامنة مساء، تضاعف علامات التحذير من وقوع كارثة وشيكة. لم يترك شتاوفنبرغ الهاتف من يديه، لكن معظم مراسليه راحوا يخبرونه بأنهم يمتثلون الآن لأوامر كايتل أو يقطعون المكالمة ببساطة.
فجأة، خرج ضابط كبير يرتدي زيا عسكريا من أحد المكاتب وصفق الباب:
̶ يا لها من ورطة! صرخ. سأعود إلى البيت.
إنه المارشال فون فِتْسليبن، الرجل الذي عينته المؤامرة لتولي القيادة العليا للقوات المسلحة بعد الإعتداء. بالفعل، وسبق لضباط آخرين وبعض المدنيين أن احتجبوا، بأكبر قدر من الكتمان: لن يمضي إلاّ قليل حتى يصبح شارع بندلر شتراسه، الذي ستنطلق منه إشارة تحرير ألمانيا، فخًّا.
بيك يودّع أصدقاءه
متكئًا على إحدى نوافذ الوزارة، أصدر الجنرال أولبريشت فجأة زمجرة حقيقيّة من الفرح:
̶ ها هي القوات! لقد أُنقذ كل شيء، وأخيرا بدأت “عملية فالكيري”!
بل انه الرائد ريمر مع كتيبة الحرس. وفي لحظات، تم محاصرة شارع بندلر شْتراسِه.
أما المتآمرون الذين صمموا على المقاومة حتى النهاية فتوجهوا إلى مكتب فروم السابق لعقد أخر اجتماع تشاوري بينهم. ليس لديهم وقت للتحدث مطوّلاً. عيارات نارية تفرقع في الأروقة. وفجأة إنفتح الباب. فقام بعض ضباط الوزارة على رأسهم الكولونيل بودو فون دِر هايدِه باقتحام الغرفة وهم يحملون مسدسات جَيب أو رشيشيّات ويصرخون: “خيانة! خيانة! حاول أولبريشت المقاومة، فسيطروا عليه. أطلق فون دِر هايدِه النار على شتاوفنبرغ، فسقط المعوّق جريحا، برصاصة في ظهره. أمّا المتآمرون الآخرون، الذين أوقفوا عند حدّهم بقوة الرشيشيات، فظلوا مسمّرين في أماكنهم. وحضر الجنرال فروم الذي أطلق سراحه الجنود المهاجِمون.
̶ إستعدتُ زمام القيادة، قال. سيتم تشكيل محكمة عسكرية على الفور. فلينزع سلاح المعتقلين!
بنظرة معبّرة، تودّد بيك لكي يحتفظ بمسدسه.
̶ حسنًا، رد فروم. لا مانع، إذا أردت أن تنتهي إلى حلّ، فأسرع.
إلتفت بيك إلى أصدقائه، وقال لهم وداعًا، ثم وجّه فوهة المسدس إلى صدغه. ضربة غير سديدة. مجرّد خدش، إذ ان الرصاصة إخترقت السقف. يائسًا، انهار بيك على كرسيه ممسكًا رأسه بكلتا يديه.
̶ هذ ا العجوز المسكين يحتاج إلى مساعدة”، علق فْروم بسخرية.
ثم خرج ليترأس المحكمة العسكرية. وما لبث أن عاد بعد حوالى خمس دقائق، برفقة عدد من القوات الخاصة.
̶ بإسم الفورر، قال، أصدر المجلس الحربي القرار التالي: الجنرال أولبريشت، العقيد مِرتْس فون كْفِيرنْهايم، العقيد … ̶ لا يمكنني حتى أن أجبر نفسي على لفظ اسمه (يقصد شتاوفنبرغ) والملازم فون هيفتِن حُكم عليهم بالإعدام. فليقادوا!
فصيلة تنفيذ الإعدام لم تطلق سوى رشقة واحدة
دُفع بالرجال الأربعة المحكوم عليهم الى الخارج. وتمكن شتاوفنبرغ من السير بلياقة رغم الرصاصة التي تلقاها في ظهره. كان وحيدًا مع بيك العجوز، عندما وضع فروم يده على كتفه:
̶ والآن، ماذا نفعل بك؟
̶ أعطني مسدسًا آخر، همس رئيس الأركان السابق بصوت متراخ.
ناوله فروم السلاح، وابتعد قليلاً. أطلق بيك النار ̶ وللمرة الثانية إنجرح دون أن يقتل نفسه. للتخلص منه أجهز فروم عليه بعد بضع ثوان.
في فناء المبنى، تحت ضوء مصابيح الشاحنات العسكرية الباهرة، جرى إسناد المحكومين إلى الحائط. لم تطلق فرقة تنفيذ الإعدام، المكونة من رجال من كتيبة الحرس، سوى رشقة واحدة. سقطت الأجساد الاربعة. جرى تحميلها على متن شاحنة نقلتها إلى المدفن المجاور. وحفرت القبور على ضوء الفوانيس:
̶ قد جرى دفنهم بأقصى سرعة، قال هيملر بعد بضعة أيام، بحيث أن أولبريشت وأولئك السادة دفنوا بأوسمتهم. في اليوم التالي تم إخراجهم من القبر للتحقق من هويتهم مرة أخرى. وأمرتُ بحرق الجثث ونثر الرماد في الحقل.
قوات الحماية في سجن فرين!
إنها العاشرة والنصف ليلاً. في برلين انتهى كل شيء. في باريس، بدأ كل شيء. على الرغم من فشل مسعاه لدى فون كلوغه، فإن الجنرال فون شْتولبناغل، الذي لم يكن يعرف شيئا عما حدث الساعة في عاصمة الرايخ، قرر في الواقع ترك العملية المرتقبة تأخذ مجراها. في حوالي الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، تم مباغتة احتلال المبنى الذي يضم مقر القيادة العامة لقوات الشرطة السرية (إس إس)، شارع فوش. في الوقت ذاته، ترك الجنرال أوبير، رئيس جهاز الأمن والشرطة الألمانية، “يصطحبونه” في شقته دون مقاومة. كذلك في أحياء مختلفة، تم اعتقال أفراد من الشرطة السرية دون إطلاق رصاصة واحدة. ثم ان أحدا من الباريسيين لم يبال بأمر تلك الأحداث.
إقتيد أُوبِرغ إلى فندق كونتيننتال. وسرعان ما ازدحمت زنزانات فرين وشورِل-ميدي بنحو ألف من معاونيه. سيطر الجيش تماما على باريس. وعاد الحاكم العسكري فون شْتولبناغل مسرورًا إلى مكان إقامته في فندق رافائيل. أدار إبرة الراديو: برلين تبث بهدوء موسيقى كلاسيكية. لكن بعد منتصف الليل ببضع دقائق، توقفت الأنغام الهادئة. وراحت تبث الأناشيد وَفق ايقاع ترنيمة هورست فيسِل، نشيد الحزب الرسمي (كان قائد كتيبة العاصفة، الجناح شبه العسكري للحزب النازي، كتبها عام 1929). صمْت. ثم أعلن فريتش، مدير إذاعة الرايخ، أن الفورر سيتكلم…
̶ مرة أخرى تم تخطيط وتنفيذ اعتداء بحقي…
إنه صوت هتلر بعينه. هذه الكلمات أخذت تلوي قلب شْتولبناغل من الألم: “زمرة صغيرة جدا من الضباط الطموحين، عديمي الضمير، وغباء إجرامي … هكذا ثبّتني العناية الإلهية في مهمتي …”
فون شْتولبناغل ينسحب
ماذا سيفعل المتآمرون في باريس؟ عندما أبلغهم شْتولبناغل، أثناء الليل، الوقوف في وجه فون كلوغه بحزم، إستولى عليهم الإرتباك. ومع ذلك، شاء البعض المضي حتى النهاية:
̶ يجب أن نواصل العملية بأي ثمن، هتف الكولونيل فون هوفْأكِر، وهو صناعي بالبدلة العسكرية. دعونا نعتقل كلوغه. ولنقتل بالرصاص أُوبِرغ وكل قادة الشرطة السياسية (إس إس) فورًا بدون إنذار.
لم يلقَ هذا الاقتراح سوى الصدى اليسير: قد علمنا في التّو أن الأدميرال النازي كْرانْك يستعد لشن هجوم مضاد بقواته البحرية.
بزغ الفجر. وأدرك الجنرال فون شْتولبناغِل أنه لم يبق أمامه سوى الإنسحاب: هو خضع لإعطاء الأمر بإطلاق السجناء من الشرطة السياسية. تمت إجراءات الإفراج عنهم في صالة فندق رفائيل الكبرى. السفير آبِتْس كان هناك، والأدميرال كرانك أيضًا، الذي انقض على شْتولبناغل وأشبعه شتمًا. سارَعوا إلى تهدئته. هذا الشعور بالخجل جراء السيطرة عليه كالأطفال، دفع بأوبرغ وشرطة الحماية في الواقع لتجنب الأسوأ. همهم الرئيس هو حفظ ماء الوجه تجاه هيملر. الأفضل إذًا هو التقليل من الأحداث ]إلى الحد الأدنى[: سيقال في برلين أن الإعتقالات تمت وفقًا لخطة مناورات ليلية – هذه هي الرواية الرسمية التي ستنقلها براحة بال باريزر تسايتونغ (Pariser Zeitung صحيفة ألمانية كانت تصدرها قوات الإحتلال).
تلك الليلة المأساوية إنتهت بملهاة: بينما تم الساعة إلقاء أجساد شتاوفنبرغ وأصدقائه في مقبرة برلين على عجَل، كان الشمبانيا هنا، في باريس، في صالة فندق رافائيل، يُصب في الكؤوس. فقد تصالح ضباط القوات المسلحة والشرطة السياسية وتآخوا وشربوا نخب بعضهم البعض. بعيدًا بعض الشيء، مشمئزًا من هذا المشهد، يخلص الجنرال بارون فون بوينبورغ لانغسفيلد للأسف إلى خاتمة “عملية فالكيري”:
̶ لو توفر على الأقل مزيد من الدم الثوري في عروقنا! ولكن كنا عسكريين اكثر من اللازم وثوريين أقل من اللازم!
أضف إلى ذلك أن الإحتفال الصغير في فندق رافايل لن يكن كافيا لتحاشي انتقام هتلر. ففي كل ما تبقى من أوروبا النازية، من بولندا إلى جبهة النورماندي، تم في منتصف الليل إطلاق آلية القمع التي لا تعرف المهادنة. وسبق أن جرى عشرات الإعتقالات. في برلين، واصلت الشرطة السرية (الغِستابو) استجواباتها بلا انقطاع، وأرفقتها بأعمال التنكيل والتعذيب التي جعلت الناجين من طرف المؤامرة يندمون على عدم مشاركة مصير شتاوفنبرغ على الفور.
في الساعة التاسعة من صباح يوم 21 تموز، تلقى شْتولبناغِل مكالمة هاتفية من القيادة العامة: أمْر بالعودة إلى برلين. في الحال استقل حاكم باريس العسكري السيارة، وطلب من سائقه التحوّل عن الطريق المباشر عبر فردان. أمر شْتولبناغِل بإيقاف السيارة قرب مورتوم: أراد أن يرى ثانية وللمرة الأخيرة ميدان القتال السابق حيث كان يقود كتيبة سنة 1916. بعد بضع دقائق، سمع السائق عيارًا ناريا، خفّ باتجاهه فوجد قائده مُضْجَعًا على ضفاف القناة المجاورة وقد اقتلعت رصاصة عينه. إنتحار فاشل. نُقل الجريح مغمًى عليه إلى مستشفى فردان العسكري، حيث أجريت له على الفور عملية جراحية. أمل الجراحون في “إنقاذه”. الجنرال هاينريش فون شْتولبناغِل هو الآن مكفوفا، لكنه لن يفلت من محكمة الشعب: سيُشنق في 20 آب.
من المحكمة إلى المِشنقة
في 7 آب عقدت محكمة الشعب أولى جلساتها، وذلك في القاعة الكبرى لمحكمة برلين المحلية. وقد ازدانت بتماثيل نصفية لهتلر وفريدريك الثاني وبرايات كبيرة تحمل الصليب المعقوف. ثمانية متهمين مثُلوا أمام قضاة يلبسون أردية خمرية – ثمانية تائهين، متشردين، حطمهم اليأس والكُرب وممارسات الغستابو العنفية. من بين أولئك الرجال باللباس المدني، بوجوه غير حليقة، بلا ربطة عنق، ولا ياقة، بقمصان وملابس مدعوكة ومتّسخة، المارشال فون فِتليبِن – الذي كان سيتولى قيادة القوات المسلحة الجديدة، الجنرال فون هازه الذي كان أعطى الرائد ريمر الأمر باعتقال غوبلز، أو سليل إحدى أعظم العائلات العسكرية البروسية، من أمثال الشاب يورك فون فارتنبورغ!
إستدعي أولاً المارشال فون فِتسليبن الذي لم يظهر بمظهر لائق. تقدم نحو قاعة المحكمة بحالة متّضعة، ورفع ذراعه لإلقاء التحية الهتلرية! إستشاط الرئيس فرايزلر، المسعور الأصيل، غضبا وراح يوبخه بعنف:
̶ وحدهم المواطنون الذين لا يتسربلوا بالعار لهم الحق في تأدية التحية الألمانية!
بدأ الاستجواب الذي كان يقاطع بالصياح والشتائم من قبل الرئيس. أما المارشال المكسور النفس، المحروم من طقم أسنانه، فقد شقّ عليه أن يُبين عن مُراده؛ بالإضافة إلى ذلك، فقد جُرّد من حمّالاته، وهو يجاهد نفسه بشكل يثير الأسى لتصحيحها.
̶ يا لك من عجوز مقزّز، صاح في وجهه الرئيس فرايزلر، ألم تنته من التلاعب بسروالك؟
̶ يجب على الأقل الإقرار بأن العدالة النازية لم تسعَ إلى الخِداع. فمن البداية إلى النهاية، كانت تلك الدعوى وما تبعها مجرد تهريج مشؤوم. ذلك أن فرايزلر لم يعرف، لتوجيه المرافعات، سوى طريقة واحدة: التنمر والترهيب. فتلقى كل متهم حزمته من الإهانات الأكثر سفالة ووحشية. نعت الواحد ب “الخنزير القذر”، والآخر ب “كومة قَذورات “. وبين الفَينة والفينة يهدأ فرايزلر، ويغير النبرة، فينتقل الى النغمات الشاعرية لتعظيم الفورر وقوة الإشتراكية القومية التي لا تقهر.
إلاّ أن ما يدعو للرثاء ربما كان عندما راح المتهمون يلعبون اللعبة حيث أنكروا بعضا من مسؤولياتهم فتمتموا معاذير حزينة لم تجرّ عليهم سوى استهزاء فرايزلر وتهكمه.
أخيرا، جاء دور المحامين. فبدلاً من الدفاع عن موكليهم، أخذوا بالإجماع يمجّدون الزعيم ويشيدون بعدالة المحكمة، ويزايدون على اتهامات المدعي العام. بيد أنهم خاطروا فقط بالمطالبة بأن يقتل المتهمون بالرصاص لا بالإعدام شنقًا. رفض الطلب بازدراء. وبعد صدور الحكم على المتآمرين الثمانية بالإعدام لانتهاك حرمة القسَم والتقصير بالواجب والخيانة العظمى، إقتيدوا في وقت متأخر من بعد ظهر يوم 8 آب إلى قاعة صغيرة في سجن بْلوتْسنزِيه حيث تم إعدامهم الواحد تلو الآخر.
تقول رواية موثوقة أنه “جرى تعليقهم بكلاليب اللحم”، حيث تم غرز الكلاّب نفسه تم دفعه مباشرة تحت ذقن الضحية. ما الفائدة من الإضافة الى فظاعة تلك المشاهد؟ في الواقع أن جميع روايات الشهود تظهر أن كلاليب مشابهة لتلك المستخدمة في المسالخ كانت مثبتة فعلاً بالسقف ̶ بينما تدلّى في نهاية كل منها حبل.
أول من مسك به الجلادون فتسليبن العجوز. كان الحبل دقيقا بحيث صعب كسر عظام رقبته وراح يخنقه ببطء. تحت تأثير العذاب، قام المعلَّق بإيماءات كبيرة ومضطربة. استغرق الأمر قرابة خمس دقائق ليلفظ أنفاسه الأخيرة عارياً تماماً، لأن مساعدي الجلاد، فور وَضع حبل المشنقة حول رقبته، جردوه من كل ملابسه.
هكذا مات مارشال بروسي، أحد الفائزين في الحملة العسكرية عام 1940 على فرنسا. كانت كاميرات وزارة الدعاية تصوّر فيلمًا. فور تظهير الشريط، تم نقل البكَرات جوًّا إلى راستنبورغ. في تلك الليلة، وفي صالة السينما الخاصة بـمقر القيادة، سيكون الفورر المصاب بالأرق قادرًا على التمتع بأدنى لحظات انتقامه.
القمع يشتدّ
“زمرة زهيدة من الضباط الطموحين …” قال هتلر مساء الإعتداء. لكن مدى القمع سَرعان ما كذَبه.
مع تقدم التحقيقات أوّلاً بأوّل، إكتشفت الأجهزة التابعة لهيملر المصابة بالذهول تفرعات وآثار المؤامرة التي لا آخر لها. ذلك أن أكبر أسماء النبلاء الألمان يقفون جنبًا إلى جنب مع الإشتراكيين الديمقراطيين والقساوسة واليسوعيين والطلاب الشباب غير المعروفين وحتى بعض الشيوعيين. ستستمر عمليات الإعدام حتى نهاية الحرب – سيبلغ عددهم بضعة آلاف. في بعض الأحيان، يتم اعتقال عائلات بأكملها: في وقت من الأوقات، كان هناك في معتقل بوخنفالد ثمانية سجناء يحملون اسم شتاوفنبرغ …
ولكن ماذا سيحلّ بالرجال اليقظين والخبثاء والدّرِبين الذين يتقنون اللعبة المزدوجة وينتظرون فقط ابتسامة النجاح الأولى للانضمام إلى المؤامرة؟
عبثًا سارع الجنرال فروم بقتل شتاوفنبرغ بالرصاص في باحة مقر القيادة الواقع في شارع بندلر شتراسه. واقتناعا منه بـ “التخاذل” لأنه حمى زمانا طويلا مرؤوسه أولبريشت، فقد اعتقل في اليوم التالي للإعتداء وأُعدم في آذار 1945 بعد تعذيب طال أمده.
ظن فون كلوغه دون جدوى أن مجرد علمه بأن الانقلاب قد فشل كفيل بتحييده عندما وجه أمرًا يوميا رنّانًا لقواته عبّر فيه عن ابتهاجه بنجاة الفورر. منذ الإعتداء، لم يعرف المارشال النوم. فهذا القائد الكبير الذي أنهكته دبابات )الجنرال الأميركي) باتون، والمهدَّد بأسوأ ثورات غضب الزعيم إذا تقهقر في النورماندي، بات إنسانًا مسكينا لا يدري بمن يلُوذ. ففي كل يوم كان يرى هذا أو ذاك من أقدم رفاقه في الخدمة العسكرية يُعتقل ويعذب ويُشنق. في كل يوم، تتعرض صلاته ببعض المتآمرين لخطر الإفتضاح. هكذا كان القائد العام في الغرب يتخبّط بشدة بين الهزيمة والمشنقة. هُنيهة فكر في الاستسلام للأميركيين. لكن هتلر نفسه هو من وضع حدًا لتردده: ففي 18 آب، دون سابق إبلاغ بذلك، وجد فون كلوغه نفسه في لاروش – غويون أمام بديله، المارشال فالتر مودل الذي سلمه رسالة تحتوي على إجازته والأمر بالعودة إلى برلين على الفور.
كان فون كلوغه يدرك ما يعني ذلك بالنسبة له. فكتب رسالة مطوّلة مرتبكة إلى الفورر، حاول فيها تبرير نفسه والتمسك بوفائه. ثم دخل السيارة. عند محطة مِتْس، ترجّل السائق وفتح باب السيارة الخلفي. كان المارشال منهارًا على المقعد، مَيتًا. خلُص تشريح الجثة إلى حدوث تسمم.
̶ كانت تلك بالنسبة إلي الخيبة ألأشد مرارة، وربما أسوأ يوم في حياتي، قالها هتلر بعد بضعة أيام في مؤتمر للجنرالات. لقد وثقت بفون كلوغه. كنت أُجِلّه كثيرًا… لا أستطيع أن أفهم كيف تورط في هذه المؤامرة.
زائران عند رومِل
على أن الفورر لم يفِق بعد من روعه. ففي مستشفى مِتْس، وبعد محاولة انتحاره الفاشلة، كرر الجنرال فون شتولبنال بإلحاح، في هذيانه، اسمًا أكثر هيبة واعتبارًا حتى من اسم فون كلوغه:
̶ رومل …
رومل، قائد فيلق أفريقيا، فارس الصحراء، الرجل الذي جسد على الدوام في أعين الملايين من المقاتلين والفورر بالذات، المثل الأعلى للقائد الاشتراكي القومي الشاب (النازي). إذًا هل “خان”، هو أيضا؟ يبدو الأمر من الجسامة بمكان لدرجة أن أحدًا، قبل كل شيء، لا يجرؤ على التحدث مع هتلر بشأنه. كايتل كان يجري تحقيقاته سرا. ثمة أمر مؤكد: رومل لم يشارك مباشرة في مؤامرة 20 تموز، لسبب وجيه هو أنه كان في ذلك اليوم طريح الفراش في المستشفى، لإصابته بجروح خطيرة في 17 الجاري من جراء القنبلة التي ألقتها طائرة بريطانية على سيارته، خلال استعراض في النورماندي، حيث كان يقود قوات الجبهة (مجموعة الجيوش B). مع ذلك فإن التحقيقات والإعترافات التي انتزعها الغستابو أثناء استجوابات مختلف المتآمرين، قد قللت باستمرار من نسبة الشك: فقد بات رومل الذي كان يرى الاقتراب من الهزيمة النهائية، على قناعة متزايدة بالتفكير جِدّيا في الإطاحة بالنظام النازي ووقف الأعمال الحربية.
في 15 تموز، أرسل تقريرًا مزعجا إلى الفورر تناول الوضع العسكري. وفي مساء ذلك اليوم قال لرئيسه في القيادة العامة:
̶ أعطيته فرصة أخيرة. إذا فوّتها، سنتصرّف.
أخذ هتلر علما بملف رومل. فوقع عليه وقع الصاعقة. رومل قد خان ولا بد أن يلقى مصير الآخرين. كل ما يجب تلافيه، إن أمكن، هو الانطباع المزعج الذي قد يخلّفه على الشعب الألماني مثول ذلك الذي صنعت منه الدعاية، منذ سنوات، معبودًا، نوعًا من سيغفريد الحديث، أمام محكمة الشعب. (تتجلى العناصر الأساسية لشخصية سيغفريد في قوّته الفائقة قدرة البشر وبسالته وجسارته وصرعه تنينًا، حيث تربط بعض الروايات ذلك بالحصول على كنز كبير).
في 13 تشرين أول 1944، وبعد أن تعافى رومل من جروحه، ذهب في إجازة نقاهة إلى عائلته في هِرلينغن، إحدى بلدات فورتنبِرغ. عند الظهر، حضر ضابطان إلى الفيلا: الجنرال بورغدورف، رئيس أركان الجيش الألماني، ونائبه الجنرال مايزل. قام بورغدورف بتسليم رومل رسالة من كايتل تلخص التهم الموجهة إليه. ويخلص كايتل إلى أنه إذا كانت تلك القرائن خاطئة، فليس على المارشال رومل ما يخشاه من التحقيق؛ وإذا كانت صحيحة، فيجب أن يعرف كيف يتصرف كضابط وكرجل شريف.
̶ السيد المارشال، قال بورغدورف لرومل، لدي علبة من قواريرالسم. إذا قررت استعمالها، فأنا مكلّف بأن أقول لك أن الفورر يضمن لك جنازة قومية، مع كل التكريم العسكري. ولن تمارس أي أعمال انتقامية ضد عائلتك.
غادر المارشال الغرفة وذهب لتوديع زوجته وابنه، ثم عاد مرتديًا زيه العسكري وماسكا عصاه في يده. صعد معه الجنرال مايزِل وجلسا على المقعد الخلفي للسيارة، التي انطلقت بسرعة. بعد بضع دقائق، وصلا إلى غابة صغيرة. أشار مايزل بالتوقف، ترجل وابتعد مع السائق برصانة.
عندما عادا، كان رومل يحجرج، جسده مائل إلى الأمام. وتوفي أثناء نقله إلى مستشفى أُولم.
وفى هتلر بوعده. كانت الرواية الرسمية هي أن الوفاة نجمت عن سكتة دماغية. يومها لم يعرف أحد في ألمانيا الحقيقة: مُنع الأطباء من تشريح الجثة. حتى غورينغ ودونيتس ويودل بذاتهم لم يعرفوا السر واعتقدوا أن المارشال قد مات مِيتة طبيعية. أقيم لرومل جنازة فخمة في ساحة أولم الكبرى. تكلّم المارشال فون روندشْتيت، بصفته “ممثل الفورر الشخصي “، بينما خصص أمر اليوم الى القوات المسلحة في الغرب لتمجيد المتوفي “، الذي دخل الآن التاريخ باعتباره واحدًا من أكبر القادة العسكريين الألمان “.
نهاية الطبقة العسكرية
فشل إذًا انقلاب الجنرالات، بخلفيته المتمثلة في المؤامرة المدنية. وبات الفورر أقوى من أي وقت مضى. حصل على متنفّس نهائي للمضي حتى نهاية مصيره، حتى آخر المأساة. ومع ذلك، يبقى 20 تموز 1944 تاريخًا بالغ الأهمية. فقد سجّل نهاية ̶ نهاية الجيش الألماني. وسيكتفي الحلفاء، في غضون بضعة أشهر، بالإجهاز عليه. أصبح كتلة هائلة مندحرة، منهزمة، بلا سريرة، بلا روح وبلا قائد. إذ لم يبق شيء من أركان حرب الجيش البروسي، الذي كان على مدى قرن ونيف محرّك التاريخ الألماني بكلّيته: من بين كبار الضباط، شنق البعض، وحُقّر البعض الآخر، وجعلوا شركاء في القمع الوحشي. في 24 تموز، طلب المارشال غورينغ، بصفته الضابط الأعلى رتبة، من الفورر السماح باستبدال التحية العسكرية التقليدية في القوات المسلحة جميعًا بالتحية النازية “للتدليل على ولائهم الدائم للفورر وعلى ارتباطهم الوثيق بالحزب “. وقد رحب الفورر بذلك وأبدى موافقته. ولم يجرؤ ضابط واحد على الاحتجاج على ذلك الإذلال الكبير.
ربما يأتي يوم يولد فيه جيش وطني ألماني من جديد. أما الذي زال إلى الأبد فهو الطبقة العسكرية، تلك النخبة من الرجال ذوي الإرادة الحديدية، والتخلي التام عن سائر الأمة بخلوتهم الوقورة الجديرة بأمراء وكهان الحرب، الحراس التقليديين للنطام الجرماني. وهكذا يكون النظام النازي، قد أكمل “ثورة العدمية” قبل أن ينهار.
هكذا كان هتلر محقًا حين تنبأ بأنه لن يكون هناك لألمانيا بعد اليوم تشرين ثان 1918. في الواقع أن الجيش القديم، في العام 1918 قد استمر، محافظا على شرفه سليما، لصون التقاليد وإحيائها. في العام 1945، وعلى العكس من ذلك، أخلى هتلر والغستابو المكان.
كان رومل في صلب المؤامرة منذ شباط 1944
خلال المداولاات الأولى عند المارشال رومل، تم استحضار بعض أفكار رئيس بلدية لايبزغ السابق، الدكتور غورديلر، والتي سبق أن نقلها في 14 نيسان 1944 إلى رومل، في فْرويدنشتات، وسيط أول عمدة لشتوتغارت، دكتور شْترولين. ففي نهاية العام 1943، طلب غورديلر من شترولين التواصل مع المارشال. كان المطلوب إقناع هذا الأخير بضرورة التخلص من هتلر ونظامه إذا أردنا إنقاذ ألمانيا وأوروبا. كان عمدة شتوتغارت، الذي رأى في رومل منذ زمن بعيد رجلاً مفعمًا بالحيوية والشفافية، يُصرعلى هذا الموضوع منذ اجتماعه الأول مع المارشال في شباط 1944. يومذاك بحثا في الإمكانيات القانونية لتغيير النظام وإنهاء الحرب. أمّا على الجانب العسكري فقد اكتملت الصورة بمعلومات وردت من العقيد بيك والقائد في سلاح المدفعية الجنرال فاغنر.
الجنرال سبايدل، رئيس أركان حرب رومل،
Invasion 1944
وزراء، حكام مقاطعات (نازيون)، كتاب لدى هيئة أركان رومل
في كل يوم تقريبا كانت تصل شخصيات مهمة من الرايخ للإدلاء برأيهم بحرية في واحة أركان حرب رومل، بعيدًا من براثن الغستابو، والبحث عن الوسائل الكفيلة بالخروج من وضع مثبّط للعزائم بشكل متزايد. كان من بين هؤلاء وزير النقل الحديدي الدكتور دُربْمولر وحاكم إقليم هامبورغ غوليتر، كاوْفْمان.
وكانت تأتي رسائل كثيرة من جميع شرائح السكان ومن أصحاب المهن؛ أكدت على وجهة النظر تلك وأظهرت الثقة الكبيرة التي حظي بها رومل كرجل وجندي.
الجنرال سبايدل،
Invasion 1944
رومل، رئيس دولة جديد
في الوقت نفسه، أي في 14 نيسان، وبناء على دعوة من الدكتور غورديلر، تمنى الدكتور شترولين، عمدة شتوتغارت، على المارشال، عقد اجتماع مع البارون كونستانتين فون نويرات، وزير الخارجية السابق، يمكن فيه استخدام تجربته الدبلوماسية العظيمة …
لكن انتقال رومل للإجتماع بنويرات وشترولين ما كانت لتمر دون أن يفطن لها البوليس السري. ثم ان رومل كلفني بهذه المقابلة مع الشخصيتين المذكورتين.
حصل (اللقاء) في 27 أيار 1944 في فْرويدِنشتات …
طلب الرجلان إليّ أن أنقل إلى المارشال دعوة للوقوف على أهبة الاستعداد لإنقاذ ألمانيا إما كقائد عام للقوات المسلحة أو كرئيس دولة إنتقالي…
الجنرال سبايدل،
Invasion 1944
“العَشرة الصالحين لإنقاذ سَدوم”
من أجمل النصوص التي خلّفها متآمرو 20 تموز 1944 “وصية” العقيد الركن فون تْرِكْسكو، رئيس أركان حرب الجيش الثاني في الشرق، الذي انتحر في 21 تموز للإفلات من جلاّديه.
” أعتبرُ هتلر ليس فقط عدو ألمانيا اللدود، بل أيضًا عدو الكون اللدود. عندما أمثُل في غضون ساعات قليلة أمام الله، الذي سيحاسبني، لكي أقدّم له كشفًا بأفعالي ومهَماتي، أعتقد أنه سيكون باستطاعتي أن أعرض، دون حرَج، ما صنعته في محاربة هتلر. فمثلما وعد الله إبراهيم قديمًا بأنه لن يدمّر سدوم، حتى ولو بقي عشرة صالحين فقط يعيشون فيها، آمل أن الله، بسببنا، لن يقضي على ألمانيا. إن أحدًا منا لن يشتكي لموته. من دخل دائرتنا قد لبس قميص نيسوس1.
- 1. تعبير فرنسي يستمد أصوله من الأساطير اليونانية حيث حاول نيسوس، سَنتور (كائن خرافي نصفه رجل ونصفه فرس كان يعيش، حسب الأسطورة في تسّاليا)، اختطاف ديانيرا زوجة هرقل. وصل هذا الأخير إلى المكان وصرع السنتور. وقبل أن يموت، أهدى رداءه الملطخ بالدماء إلى ديانيرا، طالبًا منها أن تقدمه إلى هيراكليس إذا كان غير مخلص. مرت السنون عندما أخذت تشك في خيانة زوجها، فألبسته السترة المبللة بالسم والتي فتكت بجلده لدرجة أنه طلب أن يحرق لأنه لم يعد يحتمل الألم.
تعني عبارة “قميص نيسوس”، التي لا تزال شائعة حتى اليوم هدية مسمومة. كذلك يمكن ارتداء سترة نيسوس عندما يكون لدى المرء هوى مُضن لشيء أو لشخص ما.