هنا، الماضي مهما ابتعد في الزمن، ينتفض من كبوته مع كل حدث جديد، ويتفاعل به. “الصدى الصامت” عنوان ليريكي، جدير بأن يكون بيتاً من قصيدة، إحتوى في هذا الحدث الفني، رؤى تسعة فنانين عالميين، حطّوا ابتكاراتهم في القلعة الأثرية، للقاء ميمون بين ماض وحاضر، حيث الآثار الصامتة صمت الأزمنة، في استضافتها هذه الأجسام الغريبة، تتروحن لتلتقي صدى رؤاهم.
في صمت المدينة الميتولوجية يعلو صراخ من مسام الأجسام، معبّراً عما في وحي كل فنان حاضر في هذا المعرض لغاية السابع عشر من تشرين الأول المقبل، من أعاصير كونية، حثّته بجبلة طين، بتنقيب أركيولوجي، بصوت آت من غابر الأزمنة، بفكرة من وحي آثار المدينة، لأن يكون شاهداً بمادته ورؤاه عما يحدث في الكون، معرض رؤيوي، إنما هو من مادة المآسي المتراكمة على كاهل إنسان هذا الزمن، والتي باتت مادة الفنان اليوم.
معالم القلعة أضيئت للمناسبة، فبدا الموزعّون في أنحائها، كأطياف أناس، تائهون بين واقع المعرض وميتولوجية الآلهة. هذه هي بعلبك حين تفرد سحرها بأضوائها الذهبية على آلاف السنين من الخلود.
في تطوافنا بين الواقع والأسطورة، نستدل إلى مؤسّسة ” ستوديوكور/ آرت” الفرنسية للفن المعاصر، والتي شملت تحت عنوان “الصدى الصامت” متحف بعلبك الأثري، بتسع فنانين عالميين شارك في تنظيمه كارينا الحلو وديان أبيلاّ. هذا الحدث الثقافي، الفني، الذي يؤكّد مرّة أخرى أن لبنان الذي جاء إسمه سبعين مرّة في الكتاب المقدّس، باق برسالته ودعوته، يغتسل من أوبئة الطامعين به ويعلو فوق مكائدهم. فللمرّة الأولى تستضيف بعلبك الأثرية، المصنّفة موقعاً تراثياً عالمياً من منظمة الأونيسكو معرضاً للفنون المعاصرة في المتحف الأثري وفي معبد باخوس، والذي لم يكد يودّع آخر ضيوف مهرجانات بعلبك، حتى وقع أسير أصوات، ليست بشرية ولا حيوانية، ولا حتى من منبع منجيرة راعي. باخوس الملمّ بألوهية الوقت، أدرك أن الأصوت المنبعثة من المكبّرات، صوّرت بها سنتيا زافين عبور الزمن، في تركيب من إثنتي عشرة قناة. فلعل هذه الأصوات الرابطة أزمنة بعضها ببعض، هي المكان الأخير الذي عنده ينتهي المعرض، وإليه قلت في سرّي، سأعود بعد تجوالي على سائر الفنانين، وكأن صوتاً يناديني إلى بداية الكون، البيغ بانغ الذي منه كان كل شيء.
بعد النشيد الوطني، افتتح المعرض في باحة القلعة الخارجية. إستهلّ الكلام رئيس بلدية بعلبك حسين اللقيس فقال: “ليس في الدنيا مكاناً أفضل من هياكل بعلبك الضاربة في عمق التاريخ، عظمة وفنّاً وحضارة، لأقامة معرض للفن الحديث حيث يتفاعل فيه الماضي بالحاضر…”.
وقال محافظ بعلبك والهرمل بشير خضر: “إن بعلبك كانت وستبقى المضيئة على هذا الأرث الكبير وربما يكون اختيارها لعرض” الصدى الصامت، هو الأختيار الأمثل”.
من جهته، قال ممثل الأونيسكو جو كريدي: “اليوم وبسبب التوتر السائد في المنطقة، تتحدى مبادرة “الصدى الصامت” الوضع الصعب وتعيد إحياء بعلبك من خلال أعمال فنية تتمعّن بمعظمها في بقايا القلعة ودورها في حياتنا اليومية”.
إلى كلمة وزير الثقافة ريمون عريجي، الذي أبدى انشراحاً لكون هذا المعرض الجامع فنانين من بلدان مختلفة وجد مكانه في هذه المدينة الأسطورية المرصودة للقاء الثقافات من كل صوب.
وكان للدبكة البعلبكية رسالتها وكأن الأقدام القارعة في الأديم ومنه تحلّق عالياً، ما زالت على تواصل ومع العادات القديمة. فللدبكة إن صمت الحجر تبقى هي على مدى الزمان صدى حيّاً لتراث بعلبك. من متحف الآثار بدأت الزيارة إلى المعرض، في حمى الإله باخوس.
من وحي الآثارات التي ما زالت الأرض تلفظها على مر العصور من بطنها، تماثيل تيو ميرسييه من البوليستر، كأرواح أملت عليه أجساماً من مكتشقات اشانتي في غانا، وفينوس ويللندورف ومجسّم تلالوك وغيرها. نعبر عنها لندور حول أعمال مروان رشماوي، الطارحة أسئلة حول الدمار. هو مفهومه لعلم الآثار المستقبلي من خلال مناظر مجازية وبنى هندسية مفتتّة، مبان تأثّرت بالحرب فتتحوّل مع الزمن إلى كبسولات زمنية.
سوزان هيللر خرقت صمت الأموات عبر مجموعة تسجيلات للغات منقرضة أو مهددة بالزوال. ونتوقف عند لوحات دانيكا دانيشن، صور مهجّرين من الغجر، لا أوراق ثبوتية لديهم، خلفهم، لوحة للغاليري الكبيرة للفنان هوبير روبيرالموجودة في اللوفر. ولزياد عنتر منحوتات من الإسمنت عرضها في صالة مدن الأموات. تشير إلى الحالة غير النهائية للمنحوتات بعد ترميمها. وماذا يقول لنا فيلم الشمس السوداء الذي كتبه وأخرجه لوران داسو؟ يدعونا فيه لرحلة بين الآثار الرومانية المروّعة التي بقيت آثارها بعد انفجار بركان مومباي وسترومبلي.
ويطرح “آي واي” الصيني تساؤلات عن الأرض التي قد تبني عليها الأمم مستقبلاً متناغماً. هو يدعو للجلوس على مقاعد مصنوعة من بقايا بيت صيني مدمّر. أما باولا يعقوب فمضت إلى الموزاييك ورسوم أخرى تبحث من خلالها عن وجه بيروت المستقبلي بعد الحرب.
في نهاية المطاف نعود إلى معبد باخوس حيث النحت هنا هو الصوت المرفوع على مكبرات، هذا الإبتكار الرؤيوي رعته مهرجانات بعلبك، ولديه ما يسمعنا إيّاه. عرفت سنتيا زافين مؤلّفة موسيقية تعلّم البيانو في المعهد الوطني للموسيقى.
لعلّ القنوات التي يرشح منها النغم في تجريدياته ومجازياته، هو من دفع بها إلى ذاكرة الصوت الأولى فقشرتها من غلافها، جاعلة منها ذبذبات كما أوحت لنا الأصوات الخارجة من المكبرات، وكأنها آتية من الثانية الأولى لمفعول الكون.
النهار