من خلال قراءتنا للكتاب المقدس، فإننا سنرى ان علاقة الله بالإنسان هي دائما علاقة حرة، لا يفرض الله ذاته على الإنسان، بل يحاول الدخول معه في علاقة على أسس الحرية والمحبة… وفي نص إنجيل اليوم نرى وجه الله ينكشف للإنسان شيئاً فشيئاً، وجه الله الحنان، من خلال يوحنا، وكشف الله لذاته كحنون من خلال اسم يوحنا (الله يحنان) يجعله يهيئ لقبول الانسان جوهر الله الحقيقي من خلال مجيء يسوع، الله الأب المحب.
في هذا النص الإنجيلي، يشدّنا مشهد حواري بين زكريا واليصابات والاقرباء الذين جاءوا يهنئونهم بمجيء يوحنا. حوار يظهر من خلاله اكتشاف زكريا واليصابات لحقيقة الإله الذي يعبدونه، ويظهر أيضا طريقة تفكير الناس الذين اعمت بصيرتهم الأعراف والتقاليد التي من خلالها يحاولون الحكم على الأمور وتسييرها. لنتابع النص.
زكريا وأليصابات، شيخين طاعنين في السن، ليس جسدياً فقط، وإنما فكرياً ودينياً وفكرياً… قد تشرّبا من الحياة الكثير، وخاصة زكريا بحكم عمله ككاهن يخدم في الهيكل، فقد تشبع من قراءة النصوص المقدسة وتشبّع من عيش التقاليد والأعراف الدينية والطقس الكثيرة والمعقدة التي كان يمارسها في الهيكل، إلى أن الروتين والعمل نفسه سنوياً، جعله يقع في الجفاف الروحي، ومنعه من رؤية قدرة الله العظيمة التي تساعد الإنسان والموجودة في الكثير من النصوص المقدسة التي تحكي امانة الله وفعله الخلاصي في حياة الإنسان.. ولهذا نراه عندما كان في الهيكل، لا يؤمن ويشك في كلام الملاك، ولهذا يعاقب بالخرس إلى حين ظهور قدرة الله …
الخرس أصبح فرصة لزكريا، ليس ليبتعد عن الطقوس والعادات والتقاليد، ولكن ليفكر اكثر ويقترب من جوهرها بشكل اعمق أكثر… يعلمه الملاك، ان الانسان يجب ان يتعلم كيف يتأمل، كيف عليه ان يتوجه إلى الداخل، إلى الأعماق، هنا الظلال وأماكن معتمة كثيرة بحاجة إلى إضاءة… هناك يجب أن تسكن الحقيقة وتنبع، فالايمان بالحقيقة ليس أمراً شكلياً وظاهرياً، بقدر ما هو أيمان فعل أصيل ينبع من اعمق الإنسان، موقف داخلي يُعبّر بقبول خارجي… هكذا يكون الانسان بشموليته فاهماً لتحركات الله وامانته وحقيقة التزامه مع الانسان، هكذا سيستطيع الانسان أيضاً، ان يؤمن ويثق بالله، ولا يشك… هذا ما تعلمه زكريا واليصابات، وهكذا يستطيعون فهم كلام الملاك، ولا يسمون أسم الطفل باسم ابيه زكريا، بل يسمونه يوحنا… وهنا ندخل إلى الصورة الثانية التي من خلالها نقرأ ونفهم موقف الأقارب من ميلاد يوحنا…
الأقارب، هم أناس لهم علاقات طيبة مع زكريا واليصابات، ونفهم مجيء الناس لزيارة الشيخين الذين اصبحا والدين بنعمة الرب، انهما كانا محبوبين عند الناس، وخاصة إذا تذكرنا أن زكريا كان كاهناً، فمكانته الاجتماعية بالتأكيد لها أهمية كبيرة بين اقرانه واقاربه والناس الذين يعيشون بالمقربة منهم من قرى مجاورة…
هؤلاء الناس، متشربون من ثقافة وثقاليد واعراف قديمة وحديثة، ولكنهم لا يفهمون الحياة والايمان الا انطلاقاً منها.. ولهذا يأتون ليزيارة زكريا واليصابات، على الأكثر لأنه كاهن وله مكانه اجتماعية، لهذا يجب ان نذهب لنزوره، وأيضا لانهما شيخين طاعنين في السن ولم يرزقا بطفل، وهذا امر غريب يحدث، لنذهب ونرى ماذا حصل…. انطلاقتين في التفكير بالزيارة ليس لمشاركة الفرحة، بقدر ما هي تكميلا لعادة اجتماعية واحتراما لمكانة زكريا، وأيضا بدافع الفضول، لنرى ما حدث… وليس هذا فقط، ولكن يحاول الناس ان يفرضوا على زكريا واليصابات ما يؤمنون به بحيث يتعدون بشكل او باخر على خصوصية هذه العائلة ورغبتها في عيش حدث المولود الجديد كما هم يؤمنون … فيحاول الناس من خلال استغرابهم أن يفرضوا تقليد ان يُسمّى الأبن باسم أبيه، فالخوف الذي يستولي على الناس ليس مخافة الله، بسبب إنقاذه للإنسان، بل خوف بأن لا يسير الولد على خطى الوالد فيتبلبل النظام الإجتماعي. فيجب ان يكون الابن مثل أبيه، ان يتسمى باسم ابيه وان يكون كاهناً مثل أبيه… ولكن زكريا واليصابات، يعرفان من خلال تعلمهما درساً، بان العادات والتقاليد لا تُسيّر عمل الله، بل يجب ان تخدم مخطط الله في حياة الانسان… فيسميا الطفل باسم يوحنا، ويعلما الناس ان الحياة الايمان وحضور الله في حياة الشعب ليس مجرد ذكرى (على اسم زكريا – الله ذكرى) بل حضور الله هو حضور محبة وحنان (يوحنا – الله حنّان) فيكون مجيء الطفل رسالة، ويتعلم الناس ان الحياة ليس ميراثا لتقاليد قديمة بدون روح بقدر ما هي رسالة جديدة من الله للإنسان.. كل انسان وكل اسم يطلق عليه يجب أن يكون رسالة يحملها تحقق مشيئة الله.
ونحن اليوم، بحاجة ان نتعلم من الموقفين: موقف زكريا واليصابات، وموقف اقربائهما ومهنئيهما… فهل نكون مثل زكريا ونفهم بان الله يدعونا لأن يعمل في حياتنا ويحقق فينا الطرق الذي يسير فيه يسوع ليصل للعالم؟ هل سنفهم مثل زكريا بان علينا ان نصمت وندخل إلى اعماقنا ونكتشف حقيقة الله الساكن فينا؟ هل سنبحث بين خبايا سطور الكتاب المقدس ونقرأ حضور الله الحنّان والقادر على تغيير حياة العالم؟ … ام سنكون مثل الاقرباء والمهنئين، الذين بقوا مصرّين على سيرهم الاعمى وراء التقاليد السطحية والموروث الاجتماعي السطحي، الذي يريد سجن الانسان وإبعاد الانسان عن رؤية الجديد؟ نكون مثل هؤلاء الناس الذين يتناقلون احداثاً سطحية عندما يتكلمون عن اخبار عجيبة تحدث… فجميعهم تكلموا عن خرس زكريا، وجميعهم تكلموا عن شيخين طاعنين في السن وينجبان، وبقوا يتناقلون الاخبار، يتكلمون عنها، عوض ان يفهموها ويدرسوا محتواها ويتأملوا فيها ويتعمقوا، فيفهموا حقيقة البشارة…. كما نفعل نحن في الكثير من الأحيان، عندما نسمع اخباراً عن أناس معينين، نبحث في التفاصيل السطحية، ولا نهتم بمعنى الحدث نفسه، واحياناً نشكّل الاخبار بحسب هوانا واعتقاداتنا واحكامنا السطحية، فنحن على الاخرين ونحطمهم.
نحن نعلم بان الله يتجلى من خلال الإنسان لأن الإنسان هو صورة الله…. الله يعمل من خلالنا، أعظم معجزة ممكن ان ننتظرها من الله هي ان ندعه يعمل من خلالنا… كلنا اليوم ننتظر معجزة يحققها الله في حياتنا ليتغيّر واقعنا المأساوي نحو الأحسن، ولكن اعظم معجزة هي أننا أحياء ومن الممكن ان يكون كل واحد منّا هذه المعجزة التي يحققها الله في واقعنا ليتغيّر نحو الأحسن…. لهذا من الممكن ان يكون كل واحد منا يوحنا آخر، يعكس حنان الله ورحمته… ويكون هذا من خلال تعاملنا بحنان ورحمة مع بعضنا البعض….
فلنصل إلى الله ولنشكره على ولادة يوحنا الذي يذكّرنا دائما بحنان الله وأبوته، نشكره لأنه لا يتركنا حتى في ابتعادنا عنه… ونطلب إليه ان يقوينا لنكون قادرين على سماعه، ونعمل بإرادته التي تتجلى في اعمالنا فتكون حياتنا شهادة صادقة لحنانه….
الأب منصر حداد / زينيت