ترأس راعي ابرشية طرابلس المارونيةالمطران جورج بوجودة، القداس الاحتفالي الذي أقيم في كنيسة القديس يوسف في بلدة ضهر العين لمناسبة عيد شفيعها، يعاونه الكهنة فؤاد الطبش، جوزف خوري، بطرس إسحاق والشدياق جوزف أنطون، في حضور حشد من المؤمنين. وخدم القداس جوقة الكنيسة.
بعد الانجيل المقدس، القى المطران بوجودة عظة قال فيها: “أن إثنين من الإنجيليين فقط يكلماننا عن القديس يوسف في الإنجيل هما القديس متى والقديس لوقا، في ما نسميه إنجيل الطفولة. بينما يرد ذكره بصورة عابرة وسريعة في بداية حياة يسوع العلنية عندما بدأ يظهر بين الشعب بتعليمه الملفت للانتباه وبالأعمال التي كان يقوم بها، إذ أخذ الناس يتساءلون عنه ويقولون: أليس هذا إبن يوسف النجار؟
أتوقف معكم اليوم في تأملنا عن القديس يوسف عند ما سمعناه في الإنجيل عن حيرته والموقف الحرج الذي وجد فيه عندما رأى مظاهر الحبل على خطيبته مريم: فهمَّ بتخليتها سرا.
وعن موقفه بعدما سمع كلام الملاك يقول له: لا تخف من أن تأخذ إمرأتك، لأن المولود منها هو من الروح القدس”.
أضاف: “من هذا النص من الإنجيل، نستخلص صفتين أساسيتين من صفات القديس يوسف هما في كونه رجل الإيمان المطلق والثقة بالله، ورجل الموقف الإنساني المميز بإحترام الغير وسمعته.ان يوسف رجل الثقة والإيمان: يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: إن الإيمان هو ضمان الخيرات التي ترجى وبرهان الحقائق التي لا ترى، وبه شهد للأقدمين. فبالإيمان ندرك أن الله كون العالمين بكلمة منه، فصنع ما يرى وما لا يرى” (عبرا 11/1-3). ويعدد الكاتب أمثلة عديدة من آباء العهد القديم الذين يعتبرون أمثلة في مواقفهم الإيمانية، وبصورة خاصة إبراهيم، الذي يقول عنه بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما أنه آمن بكلام الرب الذي قال له إنه، بالرغم من شيخوخته ومن تقدم إمرأته سارة بالسن، سيجعل منه أبا لعدد كبير من الأمم. فآمن، راجيا على غير رجاء، فأصبح بالفعل أبا لعدد كبير من الأمم، إذ أنه لم يشك في وعد الله، بل قواه إيمانه فمجد الله متيقنا أن الله قادر على إنجاز ما وعد به (روما4/17-21).
الإيمان هو موقف ثقة بالله الذي لا يغش ولا يغش، والذي يريد خلاص الإنسان. فهو الذي خلقه على صورته ومثاله يريد منه أن يتصرف على هذا الأساس وأن يؤمن بأن كل ما يقوله له وما يعلمه إياه بواسطة رسله والأنبياء هو صدق وحق، ولا يمكن إلا أن يؤول إلى خيره ومصلحته”.
واردف: “القديس يوسف هو أيضا، وفي بداية العهد الجديد، رجل الإيمان على مثال إبراهيم. آمن بما قاله له الرب عن مريم، وصدق بأن المولود منها هو من الروح القدس، ولو كانت كل المظاهر الخارجية تدل على عكس ذلك. آمن بأن الله الذي خلق الإنسان من العدم قادر على فعل خلق جديد يعيد الإنسان إلى الفردوس تنفيذا للوعد الذي قطعه لأبوينا الأولين عندما رفضاه: بأنه سيرسل إبنه مولودا من إمرأة من نسل آدم يسحق رأس الشيطان المجرِّب. إن في موقف يوسف هذا أمثولة لنا، أيها الأحباء، خاصة في أيامنا المعاصرة، حيث أصبحنا، بفعل التقدم العلمي والثقافي والتطور التقني والفني والإمكانيات الكبيرة المتوافرة لدينا، أصبحنا لا نؤمن إلا بالمادة وبالإمكانيات المادية ونعتبر أنفسنا آلهة لأنفسنا، مسيطرين على الكون برمته وناسين الله أو متناسينه، ولم يعد للموقف الإيماني أي موضع في حياتنا أو أي تأثير. ولذلك نرى، أنه نتيجة لذلك، يذهب الإنسان، ومعه البشرية برمتها إلى الهلاك لأنه لم يعد عنده أي إحترام للقيم الأساسية التي ينبغي أن يبني عليها حياته، ولا للقيم الإنسانية والأخلاقية والدينية التي تهدف إلى جعله يصل إلى السعادة الحقيقية، لا إلى السعادة العابرة والزائلة التي تشبه النار في الهشيم”.
واوضح “ان الصفة الثانية للقديس يوسف هي إحترامه للآخر وسمعته حتى ولو كان هذا الآخر مخطئا. يقول لنا القديس متى إن يوسف، عندما رأى مظاهر الحبل على مريم، وقبل أن يتساكنا معا، وقبل أن يظهر له ملاك الرب، هم بتخليتها سرا، بينما نعرف أن الشريعة كانت تفرض رجم المرأة الزانية حتى الموت.
بالطبع نحن نعرف لا بل نحن متأكدون أن مريم لم تكن زانية، لكن الأمر لم يكن واضحا ليوسف بعد. ولكنه بالرغم من ذلك لم يقبل بأي شكل من الأشكال أن يشك في أمرها وأن يشهر بها، بل قرر أن يتركها تذهب في سبيلها وأن يعيدها إلى بيتها الأبوي، دون أن يمس شعورها أو أن يسبب لها أي ضرر مادي ومعنوي، ودون أن يشوه سمعتها.
إن هذا الموقف هو موقف مبني على المحبة وإحترام سمعة الغير. إذ أن المطلوب من كل واحد منا أن يحترم سمعة غيره وأن يسعى إلى مساعدته لإخراجه من الموقف الحرج والمزعج الذي قد يقع فيه بدلا من أن يهدمه ويشوه سمعته ويسبب له الضرر والشر من خلال نشر الأخبار المسيئة له بين الناس. واجبنا، كما يقول المسيح “ألا ندين لئلا ندان، وألا ننظر إلى القذى الذي في عين أخينا، ولا نرى الخشبة التي في عيننا” (متى7/1-2)، بل علينا بالحري أن نذهب إلى أخينا المخطئ ونحاول مساعدته بشتى الوسائل الممكنة، لوحدنا في البداية ثم مع إثنين أو ثلاثة آخرين أو مع الجماعة إذا إقتضى الأمر”.
وأضاف: “إن في موقف القديس لوقا مثلا لنا في مجتمعنا المعاصر حيث أصبحت وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي بمتناول الجميع، وحيث أن الكثيرين منا يستعملونها للخراب والدمار وتحطيم سمعة الغير بدلا من إستعمالها في سبيل الخير والمصلحة العامة. ولنا في لبنان أمثلة كثيرة على مثل هذا الإستعمال الخاطئ، خاصة في الأوقات والظروف المتوترة سياسيا وبصورة خاصة في الفترات التي نعيش فيها الإنتخابات، إن على الصعيد المحلي، للبلديات والمجالس الإختيارية وإن على الصعيد الوطني، للنواب والوزراء والسلطات العليا، وفي السنتين الأخيرتين في ما يتعلق بإنتخاب رئيس جديد للجمهورية، إذ نحاول إبراز نواقص الغير وأخطائه على الملأ ناسين أو متناسين نواقصنا وأخطائنا الشخصية. كما أننا غالبا ما نعيش إزدواجية قاتلة في حياتنا وعلاقاتنا الإجتماعية، فنعمل ما لا نقول ونقول ما لا نعمل ونبني حياتنا على الغش والرياء وعلى الكذب والإفتراء والتعدي على سمعة الغير. وهذا ما يدعونا لنكون صادقين شفافين في حياتنا، على مثال القديس يوسف ويحذرنا من إتخاذ المواقف المبنية على الكذب والرياء ومن الإستعمال الخاطئ للسان.
يقول القديس يعقوب في رسالته: إن بلية الإنسان من اللسان، إذ أنه، غالبا ما يكون إستعماله بصورة خاطئة وفيها الكثير من الإزدواجية، إذ به نمجد الله، وبه وبالمقابل نلغي الإنسان ونشتمه ونتكلم عنه بالشر”.
واكد “ان وظيفة الكلام تقوم على نقل الحقيقة. فإذا كان الكلام يدل على غير معناه، أو على عكسه، فيكون هناك خداع وتضليل. وهذا مسيء إلى الحقيقة وإلى القريب. وهذا يوقع بلبلة فلا يعود الناس يفهمون ما يقال لهم. وهذه البلبلة غالبا ما نشهدها في وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي، التي تختلق الخبر وتطلقه ويأتي من يكذبه ثم من يؤكده ويعلق عليه ويسرد ظروفه، إلى ما هنالك من أقاويل، حتى ليضيع القارئ والسامع ولا يعود يعرف أين تكمن الحقيقة. وهذا هو الأذى بعينه، ومن طبع الحقيقة أن تشرق كالشمس”.
وشدد على اننا “كلنا يعرف، أيها الأحباء، الأضرار الكبيرة التي غالبا ما يسببها الإستعمال الخاطئ للسان والكلام والخسارة التي لا يمكن التعويض عنها نتيجة لذلك. ومن الواجب التعويض عن الخطايا المقترفة بحق صيت القريب وتشويه سمعته. ولا يمكننا أن نعيش معا، في عائلاتنا وفي ضيعنا وقرانا ورعايانا، ما لم يكن عندنا إحترام لسمعة الغير، وما لم يكن لنا ثقة متبادلة ببعضنا، أي إن لم نظهر الحقيقة لبعضنا البعض، وما لم تكن الصدقية صفة مميزة لمواقفنا. لأن الصدقية تبقى في منتصف الطريق بين ما يجب أن يفصح عنه والسر الذي يجب المحافظة عليه”.
وختم بو جودة: “يا ليتنا، أيها الأحباء، ونحن نحتفل بعيد القديس يوسف، رجل الإيمان والصدق والشفافية، الرجل المثال في إحترام الآخر وسمعته، نستلهم مواقفه في أقوالنا وأعمالنا وتصرفاتنا، وفي علاقاتنا مع بعضنا البعض. ليتنا مثله نصغي إلى كلام الرب بثقة ونؤمن بما يعلمنا وبما تعلمنا إياه الكنيسة من حقائق ثابتة، فلا نبني إيماننا على الشكليات والممارسات الخارجية فقط، بل على الأساس والجوهر. ويا ليتنا نبني علاقاتنا مع الآخرين على الإحترام والمحبة، فنقبلهم كما هم، ليقبلونا كما نحن. فنسعى إلى مساعدتهم عندما يخطئون، كي يساعدونا عندما نخطئ، نتخطى الحساسيات الضيقة والخلافات التافهة كي نستطيع بناء مجتمعنا على أسس ثابتة ومتينة، أسس المحبة والعدالة والسلام وقبول الآخر، فنسهم هكذا في بناء جسد المسيح، حتى يبلغ هذا الجسد ملأه.آمين”.
بعدها، توجه المصلون الى القاعة، مهنئين بالعيد ومشاركين بحفل الكوكتيل.
وطنية