إفتتح رئيس أساقفة أبرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده، الباب المقدس في كنيسة مار شليطا في بلدة شكا، بمناسبة سنة الرحمة الإلهية خلال قداس إحتفالي عاونه فيه خادم الرعية الخوري فادي منصور، رئيس لجنة الكهنة في الابرشية الخوري شارل قصاص، والكاهنان رولان معربس وجورج جريج، بمشاركة لفيف من الكهنة والآباء.
حضر القداس رئيس بلدية شكا فرج الله الكفوري، وأعضاء المجلس البلدي، مخاتير شكا غازي بو بدرا، شليطا عازار وأرز فدعوس، رئيس مدرسة سيدة الخلاص في شكا الأم ألبير ماري غصن، رؤساء وممثلو جمعيات، وأبناء شكا ورعايا أبرشية طرابلس المارونية.
بداية، توجه المطران بو جوده الى المؤمنين في صالة الرعية، حيث افتتح رتبة افتتاح اليوبيل الاستثنائي للرحمة، ثم أقيم زياح باتجاه باب الكنيسة، وتليت الصلاة، ثم دخل بو جوده الى الكنيسة وسط الترانيم الخاصة باليوبيل.
وبعد تبريك المياه لبتى رشها الخوري منصور على المؤمنين، ألقى المطران بو جوده كلمة قال فيها: “إن ما يميز تعليم البابا فرنسيس هو في كونه آت في مجمله من خبرته الشخصية المعاشة، وليس مبنيا فقط على معطيات لآهوتية وعقائدية نظرية ومجردة، بالرغم من كون هذه الأخيرة ترتدي طابعا مهما للغاية. فالبابا فرنسيس لم يأت من الدوائر الفاتيكانية التي تبني تعليمها غالبا على الأبحاث والدراسات ثم تعطي إستنادا إليها التوصيات والإرشادات الضرورية، بل ينطللق من الواقع المعاش الذي إختبره بنفسه، إذ أنه ككاهن وأسقف وكاردينال عاش مباشرة مع الشعب في مختلف مراحل حياته، إذ كان يزور أبناء رعاياه في منازلهم وأحيائهم الشعبية الفقيرة ويتداول معهم الأحاديث، مستفسرا عن أوضاعهم الحياتية ومطلعا على ما يعانونه من صعوبات ومشاكل متشبها بالمسيح يسوع، الذي كان يتهم بأنه يأكل مع العشارين والخطأة ويستقبل الزواني ويقبل أن تمسح إحداهن رجليه بالطيب، وتنشفهما بشعرها ويقول للذين أتوه بإمرأة أخرى أخذت بالزنى، وطالبوه أن ينفذ فيها شريعة الرجم عقابا على ذلك: “من كان منكم بلا خطيئة فليبدأ ويرجمها بحجر”. وهكذا، وكما يقول الإنجيلي بنوع من سخرية: “إبتدأوا ينسحبون إبتداء من الأكبر سنا”، أي الأكثر خطيئة”.
وأضاف: “في مجمل تعاليمه وإرشاداته يعبر البابا فرنسيس عن محبته المميزة للفقراء وإهتمامه بالمنبوذين والمهمشين الذين يرفضهم المجتمع، ويزداد في رفضهم كلما تقدم في الغنى والثروة، ذاهبا في تقدمه نحو كل ما يؤمن له من كماليات ليس عادة بحاجة إليها، وتاركا الفقراء والمساكين على قارعة الطريق. فالكثيرون من أبناء مجتمعنا المعاصر يشبهون أولئك الذين كانوا يحيطون بيسوع ويحاولون تملكه والإستئثار به، وداعين المحتاجين إليه كأعمى أريحا إلى الصمت، وهو يصرخ بأعلى صوته: “يا يسوع، يا إبن داوود، إرحمني”. لكن يسوع، كما يقول لنا الإنجيلي تخطاهم وتخطى ضوضاءهم وإدعاءهم بأنهم يحبونه، وإستدعى الأعمى وشفاه. كما أنه إتخذ الموقف ذاته وأنب رسله وتلاميذه، عندما حاولوا منع الأطفال من الدنو منه، فقال لهم: “دعوا الأطفال يأتون إلي، ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات”.
وتابع: “تعليم يسوع، بمجمله، كان مبنيا على الرحمة والمحبة، وهو يختصر كل الوصايا الأخرى بجوابه على الذي طرح عليه السؤال عن أهم الوصايا بقوله: “الوصية الأولى هي أنتحب الرب إلهك من كل نفسك وقوتك، فهذه هي الوصية الأولى والأساسية، والثانية التي تشبهها هي في أن تحب قريبك حبك لنفسك”، على هذه الوصية يستند البابا فرنسيس في كل تعاليمه ويقول في دعوته إلى تكريس هذه السنة كسنة يوبيلية للرحمة الإلهية، بأن يسوع المسيح هو وجه رحمة الله الذي يظهر رحمة الله من خلال كلمته وتصرفاته وحضوره الذاتي الكامل. فالرحمة هي الشريعة الأساسية التي تقيم في قلب كل شخص عندما ينظر بعينين صادقتين إلى الأخ الذي يلتقيه في مسيرة الحياة. ويقول البابا إن “الله صبور ورحوم”، وهي صفات يستعين بها العهد القديم ليصف طبيعة الله، كما ورد في المزمور 103/3-4 والمزمور 146: “أنه مجري الحكم للمظلومين، ورازق الجياع خبزا”. فالرب يحل قيود الأسرى ويفتح عيون العميان وينهض الرازحين. الرب يحب الأبرار ويحفظ النزلاء ويؤيد اليتيم والأرملة ويضل الأشرار في طريقهم (مز146/7-9). أما في الإنجيل بحسب القديس لوقا الذي يلقب بإنجيل الرحمة، ففي الأمثال الواردة في الفصل الخامس عشر والمخصصة للرحمة فيظهر يسوع طبيعة الآب، كأب لا يستسلم قبل أن يحل الخطيئة ويتغلب على الرفض بالشفقة والرحمة”.
وأردف: “يقول البابا في دعوته إلى تكريس هذه السنة سنة للرحمة الإلهية: “إن كل نشاط الكنيسة الرعوي ينبغي أن يلف بالحنان الذي تتوجه به إلى المؤمنين، وينبغي ألا يفتقر أي جزء من إعلانها وشهادتها حيال العالم من الرحمة”. ويستشهد بالبابا القديس يوحنا بولس الثاني الذي يقول: “إن عقلية هذا العصر الحاضر تبدو ربما أشد رفضا لرحمة الله من عقلية الأجيال السالفة، لا بل أنها تسعى إلى القضاء على فكرة الرحمة وإستئصالها من قلب الإنسان”. وإن لفظة الرحمة، بما لها من مفهوم، تبدو وكأنها تزعج الإنسان الذي أصبح اليوم أكثر منه في غابر الأيام سيدا أخضع الأرض وتسلط عليها (تك1/28)، بفضل ما أحرز من تقدم عظيم، لم يعرف من قبل، في حقل العلوم والتقنية. ولم تترك هذه السيادة على الأرض المسلم بها أحيانا من جهة واحدة تسليما سطحيا، مجالا للرحمة، على ما يبدو. كان البابا القديس يوحنا بولس الثاني أصدر رسالة عامة في الرحمة الإلهية، وأعلن قداسة رسولة هذه الرحمة القديسة فوستينا. أما البابا فرنسيس الذي منذ مطلع حبريته ما إنفك يذكر بأن رسالة الكنيسة عيش البساطة والتواضع والدعوة إلى المحبة والرحمة بشكل ملموس، فإنه أراد أن يدعونا إلى إتخاذ مواقف وأعمال واقعية تعكس وجه المحبة والرحمة، لأن يسوع هو وجه رحمة الآب، ومن خلال كلماته وأفعاله وكل شخصه كان يظهر رحمة الله. فإن هناك أوقات نحن مدعوون فيها بصورة خاصة وملحة إلى أن نركز نظرنا على الرحمة، لنصبح نحن أيضا علامات فعالة لعمل الآب. ولهذا السبب، يقول قداسته: “أردت هذا اليوبيل الإستثنائي للرحمة، كزمن ملائم للكنيسة، كي تصبح شهادة المؤمنين أقوى وأكثر فعالية”.
وقال: “أما عن الباب المقدس الذي يفتح عادة في كل سنة يوبيلية، فيقول قداسته: “إن هذا البابا سيكون بابا للرحمة. وكل من يدخل منه يستطيع أن يختبر محبة الله الذي يعزي ويغفر ويعطي الرجاء” (عدد3). ونحن بفعل عرفان كبير لما أعطيت الكنيسة من نعم، وبروح مسؤولية للموهبة التي نلناها، نعبر الباب المقدس متأكدين من أن المسيح القائم من الموت يستمر في دعم حجنا على هذه الأرض، وأن قوته ترافقنا.أما ما يعنيه الباب المقدس فهو أنه رمز للمسيح الذي يقول في الفصل العاشر من إنجيل يوحنا، متكلما عن نفسه على أنه الراعي الصالح، ما يلي: “أنا باب الخراف، فإن دخل بي أحد يكون في مأمن، ويدخل ويخرج ويجد مرعى، فقد أتيت لتكون لهم الحياة، وتكون لهم بوفرة”.
ولفت الى انه “للولوج إلى هذا الباب ودخوله، نحن مدعوون للقيام برحلة حج ومسيرة نجتازها طوال حياتنا. فالحياة هي حج والكائن البشري مسافر وحاج يجتاز دربا لبلوغ الهدف الذي يطمح له، وللوصول إلى الباب المقدس على كل واحد منا أن يقوم برحلة حج وفق طاقاته، وهذا هو دلالة على أن الرحمة هي أيضا هدف يجب بلوغه ويتطلب إلتزاما وتضحية. فليكن إذا الحج حافزا للإرتداد: إذ من خلال عبور الباب المقدس نترك رحمة الله تعانقنا ونتعهد بأن نكون رحماء مع الآخرين، كما أن الآب رحوم معنا”.
وأضاف: “تقليديا، في سنة اليوبيل كانت العادة في أن يفتح الأب الأقدس الباب المقدس في بازيليك القديس بطرس، وفي بازيليكات روما الأربعة: مار يوحنا اللآتراني، مار بولس خارج الأسوار وبازيليك العذراء الكبرى. أما في هذه السنة فقد أراد أن يتيح الفرصة لجميع المؤمنين، دون الذهاب إلى روما، ليعبروا الباب المقدس في كنائس يحددها أساقفة الأبرشيات، كل في أبرشيته، شرط أن يقوم المؤمنين بأعمال الرحمة المادية والروحية، وأن يعبروا عن توبتهم وعودتهم إلى بيت الآب، بعد أن يعترفوا ويتناولوا القربان المقدس. وعلى هذا الأساس حددنا في أبرشيتنا أربعة أبواب مقدسة تسهيلا للمؤمنين لعيش هذه التوبة وهذه الرحمة عن قناعة وبروح محبة وتوبة صادقة وهي: مار شليطا في شكا القديمة، مار أنطون البادواني في دير مار يعقوب كرمسده، كاتدرائية مار مخايل في طرابلس وسيدة الغسالة القديمة في القبيات”.
وختم: “الرب يسوع، أيها الأحباء يدلنا على مراحل الحج التي توصلنا إلى هذا الهدف، إذ علينا أن نكون رحماء كما أن أبانا السماوي رحيم، وأن نغفر لإخوتنا، ليغفر لنا الله، وأن نكون أسخياء حيال الجميع عالمين أن الله يفيض علينا إحسانه بسماحة كبيرة، لأننا في نهاية حياتنا، كما يقول القديس يوحنا الصليب، سوف نحاسب على أساس الرحمة والمحبة”.
وفي ختام القداس، تمت تلاوة صلاة اليوبيل.
وطنية