مشيئة الله الرّحيمة
الله حبّ هو. تتمحور مشيئته القدّوسة حول محبّته وحكمته وعدله ورحمته. كما تكمن رغبته المُحِبّة في أن يشترك البشر جميعهم في حياته الإلهيّة الأبديّة. فتلك هي السّماء، وذلك هو الفردوس.
يعبّر اللاهوت الكنسيّ عن هذا الواقع، بأسلوبه الخاصّ ومصطلحاته العميقة، موضحا أنّ مشيئة الله هي أن يصلَ البشرُ جميعهم إلى الآب في الرّوح القدس بواسطة المسيح الكلمة المتجسّد فيصبحون شركاء لله في الطّبيعة الإلهيّة[1] بعد التّحرّر من قيود المادّة والجسد؛ الأمر الذي لا يستطيع الفكر الدّينيّ المختلف فهم أبعاده وإدراك معانيه، بل يعتبره مغالاة وضلالا. بَيْد أنّ ما كتبه القدّيس بولس الرّسول نفسه عن مشاركة الإنسان في الطّبيعة الإلهيّة، لا يمكن فهمه إلاّ على ضوء سرّ تواضع الله المُذهل وحبّه غير المتناهي، بالرّغم من أنّ ذلك المأرب الإلهيّ المفعم بالحبّ، لا يمكن تحقيقه من دون الاستجابة لنداءات الله وتعاليمه، ومبادلته الحبّ بالحبّ.
وعليه، يتّبع الله مع البشريّة برمّتها ومع كلّ فرد على حدة، نظاما تربويّا إلهيّا خاصّا، يساعد على تتميم مشيئته الخلاصيّة التي تجلّت قديما في عطيّة الوصايا[2]، الهادفة إلى خلاص جميع النّاس وبلوغهم إلى معرفة الحقّ[3]. فتراه كلّ آن، يتّصل بنا تدريجيّا ويعدّنا يوما فيوما لتقبّل وحيه وإلهاماته التي يكشف لنا فيها عن ذاته الإلهيّة[4].
كانت البداية مع إبراهيم خليله، ثمّ مع موسى كليمه، إذ بدأ يُظهر ذاته الإلهيّة كإله رحيم ورؤوف، طويل الأناة وكثير الرّحمة والوفاء[5]، كاشفا اسمه: “أنا هو الذي هو”… إلى أن تمّ ملء الزّمن… ملء الوحي… ملء الرّجاء… وملء الحلم؛ حيث أظهر لنا مجده بيسوع المسيح عبر التّجسّد والفداء والقيامة، ثمّ قضت مشيئته أن يجتمع البشر جميعهم حول الابن المتجسّد وسط أسرته الكبيرة التي هي الكنيسة[6]، الحاملة إلى العالم رسالة الرّحمة[7] والحبّ والإيمان والرّجاء؛ تحت لواء رأس واحد هو المسيح القائل[8]: “أجل، هذه مشيئة أبي؛ من يرى الابن ويؤمن به تكن له حياة أبديّة، وأنا أقيمه في اليوم الأخِر” (يو 6: 40). فجلّ ما يريده الله هو أن يقبل الجميع نعمه وعطاياه[9]؛ أي نعمة الإيمان. لأنّ مشيئته الأولى والأخيرة هي قداسة النّفوس (1 تسا 4: 3).
بين العدل الله والرّحمة
تقوم مشيئة الله المُحبّة على العدل والرّحمة. بَيْد أنّ أفهومة العدل الإلهيّ والحبّ الرّحيم، تختلف عن مفاهيم البشر ونظريّاتهم الفلسفيّة والاجتماعيّة.
إنّ العدل بادئ ذي بدء هو إحدى صفات الله (مز 7: 11 و 11: 7 و طو 3: 2 و رؤ 16: 5) التي تعني أنّ ليس عنده ظلم ولا محاباة ولا اعوجاج (تث 10: 17).
أمّا بالنّسبة إلى واقع البشر ومعايير مجتمعاتهم، فالعدل هو مبدأ جوهريّ ومفهوم قانونيّ وخُلُقي؛ بل غاية أساسيّة يقوم عليها المجتمع المدنيّ، تهدف إلى إعطاء كلّ ذي حقّ حقه. إنّه ضدّ الظلم، ونصير الحقّ والإنصاف والمساواة.ً وهو صفة انسانية أيضا، أمر الله بها البشر، مسؤولين كانوا أو غير مسؤولين، لكي يجروا العدل بحسب مشيئته الإلهيّة، في القضاء والبيع والشّراء ومع المساكين والايتام والارامل والخدّام (تث 16: 18-20)؛ بل إنّ العدل بالنّسبة إلى القدّيس توما الأكويني أفضل الفضائل الأدبيّة إذ يهدف إلى الخير والاستقامة[10]. كما أنّ العدل والسّلام صديقان يتعانقان بحسب تعبير القدّيس أغوسطينوس[11]. لكنّ واقعيّة جبران دفعته إلى القول: “إنّ عدل النّاس ثلج إن رأته الشّمس ذاب”.
هذا على الأرض. أمّا في السّماء فالعدالة الإلهيّة تُظهر الله في صورة الدّيّان؛ وقد ذُكر في عشرات فصول الكتاب المقدّس أنّ الله يطلب العدل، وأنّه يرتضي به، ويعطي كلمة لاجرائه، ويشمئزّ من عدم وجوده، ويجازي من أجله. ولكن إن تمّ وضع مبدأ العدل خارج سياقه الصّحيح قد يؤدّي ذلك إلى الوقوع في حرفيّة الشّريعة القديمة والحرف الذي يقتل، بحسب مفهوم قداسة البابا فرنسيس نفسه. إذ قد تبدو العدالة في العهد القديم وكأنّها حفظ حرفيّ للشّريعة، بينما تبحث الرّحمة عن الخاطيء “لأنّي أريد الرّحمة لا الذّبيحة (هو 6: 6)[12]. وما عاب السّيّد المسيح بدون سبب، على سامعيه المتمسّكين بتعاليم العهد القديم موقفهم المستوحى من المثل القائل: العين بالعين والسّنّ بالسّنّ.
يمكننا وصف البابا فرنسيس بأنّه “بابا الرّحمة” بامتياز، إذ يظهر ذلك جليّا في أحاديثه وتعاليمه وأفعاله وتصرّفاته ومواقفه. فهو ما برح يكشف عن وجه الكنيسة الرّحوم، وعن محبّة الله الرّحيمة التي ستبقى على الدّوام أكبر من أي خطيئة. فهو القائل: “ما من أحد يمكنه وضع حدّ لرحمة الله التي تغفر”[13]؛ بالرّغم من أنّ عصرنا قد نسي ثقافة الرّحمة[14]. بَيد أنّ رحمة الآب تتفوّق على كلّ شيء؛ وهي لا تعرف حدودا[15]. لكنّ هذا لا يعني أنّ تقدّم الرّحمة على العدل أحيانا يجعل وجود العدل أو غيابه سيّان عند الله. فبقدر ما نجد آيات عن تفوّق الرّحمة على الذّبيحة، نرى في سفر المزامير مثلا، أنّ فعل العدل والحقّ أفضل عند الرّبّ من الذّبيحة.
استنتاجات وإيضاحات
يحسم القديّس أغوسطينوس هذه الجدليّة قائلا: “لا يظنّنّ أحد أنّ رحمة الله تترك الذّنب بلا عقاب، لأنّ الله عادل، وليس واحد ممّن صلح سلوكهم يخاف قضاء الله لأنّ رحمته سابقة له”؛ ويتابع مستدركا: “غالباً ما ينقاد النّاس وراء الرّحمة في أحكامهم فتسيطر وحدها عليهم دون العدل؛ ثمّ يفقدونها أحياناً حفاظاً على صرامة أحكامهم. أمّا الله فلا يفقد صرامة حكمه في طيبة رحمته ولا طيبة رحمته في صرامة حكمه”[16]. بيد أنّ العظمة في رحمة الله هي أنّها لا تترك الآثم بلا عقاب؛ وها أننّا نراه يضرب بعصا تأديبه، كيلا يضطرّ في النّهاية إلى المعاقبة في جهنّم[17].
وهنا يوجّه أغوسطينوس نصيحته الذّهبيّة: “احفظ جيداً في قلبك ما أردّده عليك من جديد؛ لا تعتمد على برّك لتملك، ولا على رحمة الله لتخطأ”[18]. “فبقدر ما يجب عليك أن تتّكل على رحمة الله بقدر ذلك يجب أن تخشى عدله”. أمّا وإذا صنعت رحمةً فسوف تدان برحمة؛ ذلك هو العدل”[19].
إنطلاقا ممّا ذهب إليه هذا القدّيس العظيم بأنّ “الرّحمة لا تسلب من الله العدل، والعدل لا يسلب منه الرّحمة”، نستنتج أنّ العدل والرّحمة لا يتعارضان؛ بل هما بُعدان لواقع واحد (2 مك 1: 24) يكتمل في المحبّة. غير أنّهما وبالرّغم من عدم تعارضهما، فهما في منطق الله لا يتساوان، بل ثمّة جنوح واضح في الكتاب المقدّس تجاه الرّحمة، شرط أن يرعوي الإنسان عن غيّه ويرجع عن خطيئته ويتوب توبة نهائيّة. وذلك “لأنّي أنا الله لا إنسان” (هوشع 11: 9)[20]؛ أي لا يستطيع الإنسان أن يفهم منطق الله لأنّ طرقه غير طرق البشر. أمّا المثال الدّامغ على ذلك فهو مشهد حدث صلب يسوع. إنّه الدّيّان العادل المرتفع على عرش الصّليب بين لصّين مجرمين، على اليمين واليسار. وكأنّها صورة مسبقة لمشهد دينونة الحبّ في اليوم الأخير بين آل اليمين وآل اليسار. فلصّ اليمين يجسّد الرّحمة، ولصّ اليسار يمثّل العدل. لصّ اليمين تاب ونال الخلاص، بل كان أوّل من نال الحياة الأبديّة، وهذه هي الرّحمة؛ ولصّ اليسار لم يتب، فنال ما استوجبته أعماله، وهذا هو العدل. ممّا يتّفق مع ما وصل إليه أغوسطينوس نفسه: “إنّ الرّحمة تسمو على الدّينونة وتفضّل عليها”[21].
فالوقت الآن بالنّسبة إلى أغوسطينوس، هو وقت رحمة. “زمننا هو زمن رحمة، وليس زمن قضاء، ولولا رحمة الله الآن لما استحقّ إنسان يوم الدّين أجراً…”. “الزّمن زمن رحمة، إذا أدّت بك رحمة الله إلى التّوبة، فكّر بخطاياك وأصلحها الآن، طالما أنّ الوقت متاح لك، واجعل الألم فيك خصباً ولا تكن توبتك عقيمة”. بل “لا تدع زمن الرّحمة هذا الطّويل يمرّ ويفوتك”[22].
زينيت