كتب الدكتور جورج صدقه في الجمهورية بتاريخ 31 كانون الاول 2021
طبقتان يصبّ اللبنانيون جام غضبهم عليهما، وهم محقّون في ذلك: طبقة رجال السياسة وطبقة أصحاب المصارف.
فانهيار الدولة بمؤسساتها وأجهزتها يقع على الطبقة السياسية التي توالت على السلطة منذ نهاية الحرب في بداية التسعينات، فأدّت ممارساتها الى إفلاس الدولة وافقار الشعب اللبناني ونهب أمواله وتجويعه. ويتشارك معها في المسؤولية أصحاب المصارف والقيّمون على القطاع المالي الذين خانوا ثقة الناس وبدّدوا أموال المودعين وحوّلوا الشعب اللبناني الى شعب فقير يعتاش على المساعدات ويقف في طوابير الذل.
المشكلة تكمن في انّ هاتين الطبقتين يرتبط بهما، بشكل أولي، أي عملية إصلاحية مستقبلية لإعادة إطلاق العجلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فيما هاتان الطبقتان باتتا مفلستين من ناحية الكفاءة ونظافة الكف وتحمّل المسؤولية. فهما خانتا الوطن والشعب، لم تحترما أبسط أصول الممارسة الاخلاقية والمهنية المطلوبة منهما، ولو كان هناك قضاء فاعل لكان حَاكمَ الطبقة السياسية بسبب ممارساتها وفسادها، ولكان أصحاب المصارف جميعهم من دون استثناء في السجون. قالها النائب جورج عدوان ذات مرة: «لو كان في لبنان قضاء لكان أصحاب المصارف في السجون».
فكيف يمكن الاعتماد على طبقة سياسية في إعادة البناء وفي عملية الإصلاح فيما ممارساتها هي المسؤولة عن الانهيار؟ كثيرون يراهنون على طبقة سياسية جديدة تنبثق من الانتخابات النيابية في أيار المقبل. لكن حتى الآن ليس هناك من مؤشرات عن هذه الطبقة القيادية الجديدة في الوقت الذي تسعى فيه الطبقة السياسية الحالية الى استعادة عذريتها من خلال طروحات ووعود واتهامات تطلقها بحقّ الاخرين، لا بل من خلال خطاب سياسي يُزايد على مواقف المعارضة. لو كانت هذه الطبقة الفاسدة والفاشلة قادرة على السير بالإصلاح لكانت بدأت به منذ انتفاضة تشرين 2019 ولما كانت مستمرة في تبذير أموال القطاع العام والاستمرار في نهجها العبثي.
طبقة أصحاب المصارف هي أيضا تسعى الى عذرية جديدة من دون أي خجل. إئتمنها الناس على مدّخراتهم وعلى جنى عمرهم فبدّدوها في مغامرات غير مدروسة، وهرّبوا أمواهم واموال السياسيين والنافذين الى الخارج، وهم اليوم «يتصدّقون» على الناس من تعب هؤلاء الناس. لا أحد سألهم ماذا فعلوا بالأموال. لا أحد من السلطات المسؤولة عن إدارة الشأن العام من سلطة تنفيذية أو سلطة تشريعية او قضائية حاول أن يقف مع الناس ضد حيتان المال والسياسة.
المعروف أن إعادة انطلاق الاقتصاد تتطلب قطاعا مصرفيا ناشطا وفاعلا يموّل المشاريع الناشئة ويموّل الاستثمارات الضرورية لإطلاق العجلة الاقتصادية. غير أن الثقة باتت مفقودة كليا بهؤلاء المصرفيين، والناس سيفضّلون الاحتفاظ بأموالهم تحت سريرهم أو في مخابئهم على أن يودعوها لدى من سبق وسرقهم. لن يستعيد القطاع المصرفي بهيكليته الحالية مُطلقاً ثقة الشعب اللبناني ولو بعد عشرين سنة. سيروي الناس لأبنائهم ولأحفادهم خديعة هذه المصارف ولن يأتمنوها مجدداً على تعب حياتهم.
من سيمّول إعادة انطلاق الاقتصاد إذاً؟ هناك حاجة الى بنية مصرفية جديدة تماما كما البنية السياسية الجديدة. إذا لم تدخل على السوق اللبنانية مصارف جديدة عربية ودولية ضامنة لن يستطيع الاقتصاد اللبناني ان ينطلق، تماماً كما الحاجة الى طبقة سياسية جديدة من طراز رجال دولة لا من طراز تجار الهيكل. فترميم الاقتصاد اللبناني يحتاج الى مصرف مركزي يدير الأموال العامة بشفافية والى مصارف محلّية تواكب الدورة الاقتصادية من خلال مصلحة الاقتصاد الوطني لا ان تكون مصارف تقوم على الربى كما حصل حتى الان.
فالمصارف في دورها الرئيسي تموّل نهوض اقتصاد سليم من خلال تشجيع الاستثمارات المنتجة التي تساعد على النمو وعلى إيجاد فرص عمل وتشجيع الإنتاج الوطني في قطاعاته المتعددة. هذا الدور الأساسي لم تقم به المصارف اللبنانية ولا المصرف المركزي منذ أكثر من 30 سنة. وقد تحوّلت المصارف التجارية مع المصرف المركزي الى غرف سوداء عطّلت الاقتصاد من خلال امتصاص السيولة ووضعها بتصرف السياسيين وتحويل الاقتصاد اللبناني الى اقتصاد ريعي يقوم على المضاربات.
كيف الحلّ إذاً مع طبقة سياسية خرّبت الوطن بعدما رهنته لمصالحها الشخصية الصغيرة ومع مصارف سرقت أموال الدولة والشعب بالتشارك مع الطبقة السياسية؟
مهما فعلت هذه الطبقة السياسية ومهما غيّرت في خطابها ومهما حاولت التذاكي، فهي ستبقى طبقة لفظها الشعب ودانها التاريخ وصنّفها على أنها مسؤولة عن دمار بلد وإفقار شعبه والتسبب بدفعه الى الهجرة.
ومهما فعل رجال المصارف سيبقون في نظر الناس مجموعة سارقين، وسيبقون نموذجا عن نهب الأموال العامة وسرقة جنى الناس ومدّخراتهم وسرقة قرشهم الأبيض الذي كسبوه بعرق جبينهم.
إذاً كيف الطريق الى التغيير؟
الطريق الاسهل هي إرادة دولية بكشف مصير الأموال المنهوبة من لبنان والتي تحوّلت الى المصارف العالمية. من شأن هذا الأمر تَعرية ماسكي القرار وكشف عمليات احتيال السياسيين ورجال المصارف وإعادة الأموال الى أصحابها والى خزينة الدولة. وهذا يفتح الباب أمام محاكمتهم وتنحيتهم. لكن هذا الحل يبدو صعباً إذ انّ الدول الكبرى، الساعية الى مصالحها أولاً، لا تبدي أي نيّة للقيام به انما تستعمله كعصا لفرض مشيئتها.
تبقى العملية الانتخابية التي يعوّل عليها البعض آمالاً لعلّها تساهم بوصول طبقة سياسية جديدة الى السلطة تحلّ مكان المنظومة الحالية. هذا ما يردده المسؤولون الغربيون، وآخرهم أمين عام الأمم المتحدة خلال زيارته الأخيرة لبيروت قبل أيام. وكأنّ هؤلاء لا يعرفون ان العملية الانتخابية تتطلب أموالاً ووسائل اعلام وقدرات لوجستية لا يملكها سوى السياسيّين الحاليّين، كما تتطلب ان يكون للناخبين حريّة الاختيار في صندوقة الاقتراع، وهذا أيضا ليس بمتوفر لقسم كبير منهم، لأسباب عديدة سواء بسبب التهديد المباشر أو بسبب حاجتهم الى السياسيين المُمسكين بلقمتهم.
واقع الحال أن لبنان ما زال في مهب الريح وأن سياسييه في السلطة والمعارضة، المدنيين والروحيين منهم، يبيعون الشعب كلاما في غياب أي خطة عملية لوقف الانهيار، وقد سرقوا منه ليس فقط أمواله بل أحلامه أيضا التي باتت تقتصر على الهرب من الوطن…
كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه