الصليب علامة المصلوب، ولا صليب من دون المصلوب، وبعلامة الصليب نغلب. نوره عظيم… شعاعه غلب شعاع الشمس وحجبها… خشبته العتيدة تقدست وتشرفت بتعليق جسد المخلص عليها. علامة الصليب عالية في جَلَد السماء، وهي علامة الغلبة والخلاص، وقد صُلب عليه مخلصنا كي يخلص جبلتنا.
لذلك نطوف معانقين الصليب في زفّة عيد الصليب المجيد مرنمين باللحن الشعانيني لأن المسيح ملكنا مَلَكَ على الخشبة المقدسة غير المائتة. نحمل الصليب الحامل الحياة ونطوف واثقين بالخلاص الذﻱ نلناه… نحمله كعرش مُلك المسيح الذﻱ عَرَقَ عليه فأبطل عرق آدم، وشفانا بنَضْح عَرَقه الخلاصي. سال دمه عليه ليفتدﻱ الخليقة كلها ويقتنيها إليه.
مخاطبين الصليب كأنه شخص قائلين “السلام لك أيها الصليب” علامة الخلاص، فرح المسيحيين، الغالب ضد المعاند، عزاء المؤمنين، ثبات الشهداء… سلاح الغلبة وسيف الروح ويُنبوع النِعَم وكنز الخيرات إلى كمال الدهور. نحمله على أكتافنا لكي نهرب من وجه القوس وننجو من كل شدة، وبه نطفئ لهيب النار ونسد أفواه الأسود… ونقول “أغلقوا أبواب البرابي، أغلقوا بيوت الشيطان، وافتحوا أبواب الكنيسة بيت الله… مبارك الآتي باسم رب القوات”.
إنه احتفال بتدبير إلهنا الذﻱ أسسه بالنعمة من أجل مغفرة خطايانا السالفة بإمهال الله… والذﻱ بصليبه صار خلاصنا وتبريرنا ومصالحتنا وثباتنا… نحتفل بإنتفاء طغيان الخطية وبإنهدام قلعة الشيطان وتجريده من تسلطه، وبانقطاع أحبال الموت وانفتاح أبواب السماء وزوال اللعنة وإلغاء الحكم السابق الصادر ضدنا… نتحد به فنُشفىَ ونتحرر من الجحيم، ونصير شركاء الابن الوحيد وشركاء الميراث في جسده، وشركاء السر المكتوم منذ الدهور، والذﻱ صار لنا به عودة وسلام ومصالحة وتقديسًا وبرًا وفداءًا أبديًا.
في زفة عيد الصليب نزين الصليب بالورود والرياحين ونطوف به مفتخرين، رافعين علامته المجيدة والمكرمة التي ليسوع المسيح إلهنا الحقيقي، مخلصنا الذﻱ صُلب عليه حتى خلص جنسنا… ندور به في أرجاء البيعة لأنه سلاحنا ورجاؤنا وثباتنا في الضيقات والشدائد.
فبالصليب صرنا أبناء ولم نعُد بعد عبيدًا للخطية… ذُقنا أبُوَّة المصلوب لما بسط يديه على العود الطاهر وضمنا إلى قطيعه، وبحركة الضم هذه رفعنا إليه… نزفّه بالورود والشموع لأننا به نُعطىَ فرحًا، ولأن الذﻱ سُمِّر عليه جعل مُحِبّيه لا يبقوا مسمَّرين في خطاياهم، بل دعاهم أبناء وورثة وأحرارًا وشركاء.
وفي موكب دورة المصلوب يرتفع الصليب، لأنه لم يعُد أداة عار بل انتصار وفخار… لم يعُد أداة عقوبة بل مصالحة واسترداد. إنه موكب المفديين الذين يحملون صليبهم بالورود والشموع لأنهم يحملون النِّير بفرح واختيار، وعدوهم المشتكي عليهم قد دِينَ وطُرح خارجًا، مدحورًا ساقطا مثل البرق.
ونضع على الصليب ثلاث شموع لأن خلاصنا هو أمر مقرر في الثالوث القدوس منذ إنشاء العالم… من حيث أن تدبير الخلاص أُعطي لنا من الآب بالابن في الروح القدس… نضع على الصليب ثلاث شمعات موقدة، ونرفعه طالبين الرحمة وغفران الخطايا، المعطاة لنا بالصليب علامة الظفر، نتقوىَ من قِبَلها، لانها شجرة الفردوس التي تُحيي كل أحد بأغصانها العطرية، تُزهر وتُفرِخ وتُثمر، وتجعل المياة المرة حلوة، فقد بسط المسيح عليها يديه ليجذبنا ويقودنا بقضيب خشبة اللوز الذﻱ قطر عليه دمه الذكي الكريم.
نحمل الصليب على أعناقنا لكي لا نبقى في خطايانا وجهالاتنا غير مُبالين، ولكي نُصلَب للعالم ويُصلَب العالم لنا.. فصليبنا هو المذبح الأول الذﻱ رُفعت عليه ذبيحة الخلاص، لذلك هو ثبات كنيستنا وزينة شعبنا، وبه نطير إلى العلو مستورين تحت جناحيه، لأنه آية وخَتْم خلاصنا وبهجتنا، تتقدس به أرجاء الأرض، وتتهلل الآنام، مرتلين بالألحان لصليبنا الذﻱ به انحل ّجنسنا من اللعنة وانمحىَ صَكّ خطايانا.
مسبحين ألحان الفرح للعُود الإلهي الذﻱ أظهر الحياة، والذﻱ منه تستدلّ الكنيسة على مصدر وجودها… ننظر إليه فننال الشفاء من لدغة الحية المميتة، لأنه “الحية النحاسية الحقيقية”، وبه ننجو لأنه “خشبة الفُلك الحقيقي”، وبه نتقوىَ لأنه “عصا موسى وعصا هارون الحقيقية”، نطوف به في دورة كنسية؛ معلنين فرحة الانتصار والعودة إلى الفردوس “من قِبَل صليبه وقيامته المقدسة رَدّ الإنسان مرة أخرى إلى الفردوس”.
لكن الاحتفال بعيد الصليب لا يعني أنها مجرد ذكرىَ، لأن الصليب حياة، والذين لا يحملون الصليب يهلكون.. ومسيحنا صُلب ليدين الخطية ويمحوها، وليعتقنا بالكامل من سلطانها، ودعانا لنحمل صليبه كل يوم، ولنسلك بحسب الدعوة التي دُعينا إليها.
فالصليب هو دعوتنا وعيدنا الدائم ليحيا المسيح فينا وبه نغلب، وفي كل عيد صليب تجدد الكنيسة دعوتنا لحمل الصليب ولتبعية المصلوب بفهم ووعي ومواظبة، فنذوق بركة الصليب شجرة الحياة، التي بها أتى الفرح إلى العالم واُستُرِدّت كل طبيعة آدم الساقطة. عارِضتُه العامودية تشير إلى الكلمة الذﻱ نزل ونصب خيمته في وسطنا وحَل بيننا، وعارِضته الأفقية جمعت الكل فيه ووحّدت السمائيين مع الأرضيين، والنفس مع الجسد، والشعب مع الشعوب، عندما ردنا من التدبير الشمالي إلى التدبير اليميني.
من قِبَل خشبة صليبك المقدسة غير المائتة يا سيدنا صارت لنا الحياة، وبها نقهر عماليق، وبها نغلب، فهي خَتْمنا ووسامنا وعِزّنا وقد عزمنا أن لا نعرف شيئًا إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبًا.
القمص أثناسيوس جورج