اليوم هو الاول من نيسان الذي اعتدنا فيه تركيب المقالب ببعضنا البعض. على الرغم من خفوت هذه “اللعبة” في السنوات الماضية كما كل التقاليد والشعائر الشعبية والمحلية في زمن التقنية وثورة الاتصالات، لكن تبقى فكرة كذبة أول نيسان حاضرة في ذاكراتنا أفرادا وجماعات. فالكذب على أشكاله لا يتأثر ويتبدل بتغير وتبدل نمط حياة البشر، فكيف لو كان كذبة “بيضاء” من أجل التهويل على شخص او إضحاكه وإضحاك المجموعة؟ سيبقى على الارجح مداوما في التقاليد الاجتماعية طالما احتاج البشر للكذب واقترفوه.
لكذبة “اول نيسان” شروطها بطبيعة الحال، فلا يمكن ان تكون مؤذية او تؤدي الى تأثيرات ونتائج خارج حدود المزاح وحدود النهار نفسه. هي بمعانيها العامة والنفسية تنفيس للبشر عن حاجتهم الى قول ما هو غير حقيقي او غير صادق، فالنفس البشرية مولعة بالكذب ما دفع الاديان جميعها الى النهي عنه، واعتباره من المحرمات كالقتل. والكذب انواع, منه ما يكون عاما” وينتشر بين الناس انتشارا كبيرا ويسمى “الاشاعة”، ومنه الخاص الذي يستخدمه المرء للدفاع عن نفسه او لدفع شرور بشر آخرين عنه او لتحقيق مصلحة ذاتية وخاصة.
الرغبة في الكذب مهما كانت أسبابها النفسية، هي واحدة من رغبات البشر التي تصنف شخصياتهم بأنها منقسمة بين خير وشر، في بعضها يغلب الخير على الشر والعكس في بعضها الآخر. لكن نواهي العلاقات الاجتماعية والعقد الاجتماعي بين البشر يجعل الكذب خطيئة من دون ان يمنعه تماما، فيغلف بطرق مختلفة ومتنوعة بعضها يكشف بسهولة وبعضها الآخر يكون من الصعب إكتشافه. وهذا كلّه يسبب ضغطا نفسيا بشكل من الاشكال في نفوس البشر،إذ يضطرون الى كبت رغبتهم في الكذب كما يكبتون (ليس غالبا) رغباتهم في ممارسة أنواع مختلفة من الشرور. لذا في الاول من نيسان تفتح جريمة الكذب على مصراعيها من دون معاقبة ذاتية ولا إجتماعية بمثابة العيد، وهذا اليوم كان فعلا عيدا” لشعوب كثيرة، يطلقون المكبوت في نفوسهم فيه.
كذبة “اول نيسان” مغفورة. تخرج من اطار الجريمة، ومن اطار الوصايا العشر التي اوصت الاديان بعدم مخالفتها.هذا لا يعني ان الناس يتوقفون عن الكذب في الايام الباقية من السنة، وان حيواتهم وعلاقاتهم يجلوها الصدق ويحصنها. هذه فكرة بعيدة المنال، لكن كذبة ايام السنة الاخرى اذا ما ألحقت ضررا بفرد او جماعة يعاقب مرتكبها بقدر الضرر الذي ألحقه بالغير، اما كذبة الاول من نيسان فإنها تمرر على شاكلة مزحة، او ان ضررها الذي تحدثه يحتسب وكأنه ضرر مسلّ. لنقل انه تواطؤ بشري عام على ان يكون ضرر كذبة الاول من نيسان من غير محاسبة. تواطؤ تفرضه حاجة هؤلاء البشر لاخراج المكنون في دواخلهم. لذا يترك العنان في هذه الحالة للمخيلة كي تصنع مقلبا او كذبة تؤثر في حياة اكبر عدد من الناس، او تؤثر في حياة فرد واحد، فتبدل ما استقر من حياته حتى لو علم ان ما مر معه هو مجرد “كذبة نيسان”. فلو قيل لاحدهم ان والده قد توفي، ثم اكتشف ان هذه كذبة اول نيسان، لن تكمل حياته على ما كانت عليه قبل المزحة- الكذبة. واذا قيل لاحدهم انه ربح جائزة “اللوتو” وصدق الامر لعدد من الساعات ثم إكتشف المزحة، فستكون الساعات التي قضاها مصدقا الامر جزءا مختلفا من حياته، وكذا الساعات التي ستخلف اكتشافه انه كان يعيش في الخيال.
في سنوات انخفاض قيمة الليرة اللبنانية اواسط الثمانينيات من القرن المنصرم انتشرت إشاعة بأن مصرف لبنان يشتري الليرة المعدنية بمئة ليرة ورقية، فأفلس مئات التجار من الذين صدقوا هذه المزحة السمجة بعدما أخذوا يبيعون بضائعهم مقابل ليرات “الحجر”. وخلال الحروب اللبنانية كذب لبنانيون كثر حول هويتهم الطائفية او السياسية في سبيل النجاة من الموت حين مرورهم على حواجز عسكرية طائفية. وخلال سنوات السلم اطلقت إشاعات كثيرة كاذبة حول مشروع اعادة اعمار بيروت ولبنان من أجل إفشاله وما زالت تطلق حتى اليوم. ويقال ان الكذب ملح الرجال أيضا، به يتمكنون من القبض على قلب إمرأة فيستجلبون عطفها وحبها، وهي تعرف طعم هذا الملح وتستسيغه.
لنذهب بالامر الى مكان أبعد وأعم، ماذا لو قيل للبنانيين أن بلادهم لن تكون رأس حربة المعركة مع إسرائيل بعد اليوم، وبأن لا حروب جديدة ستتكرر فوق أرضهم لانها ستنتقل الى أراض أخرى بعيدة او أن السلام سيعم في منطقتهم. ما الذي سيشعرون به؟ ربما سيصدقون الامر ويتوقفون عن الهجرة والتحشيد والدفع الى كره الآخر… ماذا لو قيل لهم ان الخدمات الاجتماعية التي يستحقونها من طبابة وتعليم وسكن ستكون مجانية او شبه مجانية؟ لا بد سينظرون الى الحياة بشكل مختلف، أي نظرة تفاؤل وأمل وحتى لو إمتد الامر الى ساعات من التخيّل والتمني فقط. وهذا النوع من التخيل والتمني ليس غريبا عن حياة اللبنانيين فهم أكثر من يصدق ما يقوله متوقعو الاحداث من قبيل ميشال حايك عبر شاشات التلفزيون، وهم من متابعي كتب الابراج التي تباع أكثر بكثير من غيرها من الكتب في معارض الكتب اللبنانية. يقال “ان الغريق يتعلق بحبال الهواء”. وحبال الهواء كذب لكن الغريق يحتاجها ليتأمل ألا يموت غرقا. واللبنانيون الذين غالبا ما أشعرتهم الظروف انهم غرقى لا بد سيتمسكون بحبال الهواء حتى لو كانت على شاكلة كذبة “أول نيسان”.
أليتيا