4- أسباب الصمت والسكوت
نستعرض بعض أسباب الصمت والسكوت: (فأسباب تلك الحالة مسؤولية الرجل والمرأة).
1) بدايةً موت الحبّ أو عدم وجوده (ونقصد هنا ونشدّد بأنّ الحبّ ليس فقط الشغف والرغبة والإعجاب والغرام).
2) عدم الوعي والإدراك لأهميّة الحوار ونتائجه الإيجابيّة. (السطحيّة والخفة في التعامل مع الآخر)
3) الخوف من تكرار الفشل أو ردّ الفعل السلبي.
4) الاعتقاد الخاطئ بأنّ الأفعال تُغني عن الأقوال، أو فهم الآخر دون اللجوء إلى الإفصاح عمّا يدور في خلده “الفهم على الطاير”.
5) الرتابة وعدم الوضوح والصراحة وكثرة المشاكل والصعوبات أو الهروب إلى الأمام أو الاستسلام واليأس والضجر والروتين.
6) تأثير “شخصيّة” كل فرد من الثنائي أي المزاج والنفسيّة.
7) تعبير عن الخوف والضعف، والعجز عن التواصل أو حتى الإقرار بالخطأ. (“كلّما صمتنا، كلّما تفوّهنا بحماقات”).
8) الانتقال من السكوت إلى الصمت (فهو علامة للمرض الذي بدأ ينخر في خلايا حياة الثنائي). فالنتيجة: لا تواصل في مجال شامل وكلّي.
9) الدخول في السكوت اللامبالي فهو يُلغي التواصل وبصورة مأساويّة. ومن ثمّ السكوت التتجريبيّ الذي هو استمرار للسكوت اللامبالي ويتخّذ طابع العناد الرافض لأي تواصل.
10) عندما ينغمس الشخص بالضغينة وتتملك نفسه الحقد، يتحوّل عندئذٍ السكوت إلى صمت مُطبَق. واللعبة تبدأ باللامبالاة، ثمّ تتحوّل إلى إدانة الآخر وعدم قدرة حلّ لغز الآخر. عندئذٍ يُصبح الصمت عامل إستفزاز يثير حيرة الشريك وقلقه، وينشر الرعب في كيانه… وهذا الصمت هو أشبه بحصار يُضيّق الخناق على الشريك، فيشعر يومًا بعد يوم أنّه ضحيّة لجلاّد ساديّ يتلذّذ بترصّد عذاباته ومعاناته.
11) الوقوع في فخّ الصمت أي بالغضب المكبوت والذي غالبًا ما يُعبّر عن رغبة في السيطرة. فمن “الحرد” إلى “المُضمَر” إلى “سوء الفهم” (النظرة الذاتية والميل إلى المواقف الضبابيّة والافتقاد لأيّ نوع من التمهيدات أي الابتعاد عن الدقّة والوضوح في الرؤيا). وهنا يدخل الثنائي في العتاب (اللوم) ومن ثمّ إلى ذرائع للشجار من ثمّ إلى التسلّط واستعمال وسائل العنف.
إنّ حالة الصمت والسكوت تولّد مع الوقت فقدان الحبّ وموته. وأسباب فقدان هذا الحبّ تعود إلى عوامل متعدّدة ومتشعّبة بحسب كلّ ثنائي. لكن تبقى بعض النقاط المشتركة أو بعض العوامل المسببة لفقدان الحبّ ومنها: الروتين، الأنانيّة، الغيرة، العناد، الكبرياء، عدم الثقة، عدم الحوار والتواصل، عدم التضحية، عدم التفاهم والنضج، الانطوائيّة والضجر، تحطيم الآخر، الانغلاق وعدم الصراحة، تدخّل الأهل المباشر، عدم المشاركة، التركيز فقط على المال والاستهلاك، سوء الاختيار وعدم وجود حرّية داخليّة وإرادة قويّة من أجل مواجهة الصعوبات والتحديات.
إنّ بعض تلك النقاط التي تؤثّر مباشرةً في فقدان الحبّ، لا بدّ من معالجتها لإنقاذ الحياة المشتركة بين الرجل والمرأة واستعادة الحبّ أو بالأحرى إحيائه من خلال التواصل والاتّصال والحوار. فالحوار هو الاستماع للآخر وأيضًا فهم الآخر وليس المحاكمة. لا بدّ لتحقيق ذلك من توفير مساحة زمنيّة ومناخ مواتي للنقاش والحوار وتبادل الآراء والتعبير عن الذات من خلال الثقة والصراحة التامة. لكي نتمكّن من إيجاد هذا النوع من الحوار علينا خلق ساحة أو مساحة للتلاقي بمعنى آخر حثّ الثنائي على المشاركة في الميول والأحاديث والهوايات، الاعتراف بحقوق الآخر وضرورة إحترام بعض “الاستقلاليّة” والاختلاف والتأكيد على أهميّة التكامل وضرورته.
من الأهميّة بمكان الحرص الشديد كي لا يشعر الشريك من خلال التلاقي والعيش معًا والحوار، بأنّه في حالة إستجواب دائم، عندئذٍ يرى في حالة السكوت والصمت أفضل له من الشعور بأنّه مراقب ومتّهم أو أنّه في تحقيق بوليسي. لذا لا بدّ من معرفة اختيار الأحاديث المناسبة والكلمات التي توحّد وتجمع حول تثبيت الحياة المشتركة ونجاحها.
5- من الصمت إلى العنف
1) عندما يسيطر الصمت المطبق والسكوت القاتل لفترة طويلة على الحياة المشتركة، يشعر الثنائي بأنّ الأمور العالقة بينهما والجمود الحاصل سوف يؤدّي إلى أزمة عميقة وللأسف تأخذ منحىً مؤلمًا ومحزنًا، حيث تبدأ بعض التصرفات العنيفة تظهر في علاقتهما التي تؤثّر سلبًا على حياتهما وعلى العائلة أيضًا.
العوامل المسبّبة للعنف:
أ- استعمال القوّة لضمان سيطرة القوي على الضعيف.
ب- تأثير الإطار الاجتماعيّ والتربويّ: دونية المرأة، وموروثات دينيّة وثقافيّة واجتماعيّة.
ت- العامل النفسيّ: مرض عقلي، وتعاطي المخدرات والمسكرات…
ث- العامل الإعلاميّ والإعلانيّ.
ج- العامل الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
ح- الجهل الديني والأخلاقيّ والإنسانيّ.
خ- غياب الحوار: وهو مؤشّر سلبي وأحد الأسباب الدافعة لاستعمال لغة القوّة والعنف عوضًا عن لغة المنطق والعقل والعاطفة.
إنّ العنف الأُسري فعل عنيف، جسديًّا كان أم نفسيًّا يُلحق الأذى بالذات وبالآخر. هو انتهاك فاضح للشخص البشريّ وكرامته، الذي له الحقّ في الحياة، والأمان، والكرامة والسلامة الجسديّة والنفسيّة والعقليّة. فإنّها ليست أفعال خاصة بل تطال المجتمع بأسره لأنّها تنزل الضرر ببيئة المجتمع لكونها انتهاك لحقوق الإنسان والتي لا يجوز التعدي عليها دون أن ينال التأديب والتعويض والمكافحة.
2) أنواع العنف:
أ- الجسديّ
ب- الجنسيّ
ت- النفسيّ:
1- العنف الكلاميّ: تهديد، سحق للمعنويات، تحقير، إهانة، استعمال كلمات وتعابير نابية، تراشق لفظي.
2- الإنكار العاطفيّ: الإهمال المتعمّد، رفض اللقاء العاطفيّ- الجنسيّ، تأجيج روح الغيرة…
3- التحكّم بعلاقات الآخر الاجتماعيّة.
4- العنف ضدّ الأولاد.
5- عدم السلام والأمان والطمأنينة.
6- الاستغلال الاقتصاديّ.
6- استعادة الحبّ المفقود
لكي تستمرّ الحياة المشتركة لا بدّ من”التوفيق بين الوحدة الكاملة والتمايز الكامل”. لا بدّ من تلاقٍ بين عالمي الزوجين اللذين يغتنيان الواحد بالآخر من خلال تنوّعهما. ومن الموكّد أنّه ما من حلول سحرية، بل هناك منهجيّة علميّة مبنيّة على الحبّ. فالمسيرة الزوجيّة تتطلّب استعدادًا ناضجًا على جميع الصعد. عندما تتعثّر الحياة المشتركة أو بالأحرى من الأفضل وقبل أن تتعثّر ــــــ بسبب عدم فهم الآخر وعدم وجود بعض الحلول للصعوبات ومعرفة معالجة المشاكل ــــــ لا بدّ من الحوار الصريح والواضح والمكاشفة المبنيّة على الثقة والتغيير من أجل تحسين الأمور وإعادة النظر في الطروحات والمواقف. إلاّ أنّ المهمّة ليست بيسيرة، لكن التصميم الصادق كفيل بإنجاحها.
استعادة الحبّ المفقود من خلال الحوار الصادق ونتائجه الإيجابيّة، يساعد على الدخول من جديد إلى كنف أعماق الآخر. فالحوار البنّاء المنطلق من قواعد علميّة وعمليّة يُسهم في عمليّة خلق دائمة. ولكي يستمرّ الثنائي بتجسيد الحبّ وعيشه يومًا بعد يوم عليه أن ينسى ويسامح.
نعود لنؤكّد على ضرورة وأهميّة الاتّصال من خلال الحوار المستمرّ الذي يؤمّن للزوجين التقرّب والتفاهم، فالاتّصال لا يقتصر على الجسد، بل أيضًا على الحوار والسلوك والأداء والحركة وردّة الفعل. فكم من كلمات معسولة تفضحها نظرة أو تغيير في نبرات الصوت تكوّن الرسالة الحقيقيّة، فالبساطة والطمأنينة والثقة كلمات كفيلة بفكّ لغز سرّ الاتّصال الجيّد ضمن الحياة الزوجيّة. كما أنّ الحبّ والإيمان يعزّزان الوصول إلى الآخر، وتحقيق الذات تمرّ بالآخر.
إنّ الحضور المشترك بين الرجل والمرأة يمرّ من خلال الاتّصال الجيّد. وكلّ إتّصال جيّد بحاجة لإصغاء متبادل، أو لاستماع جيّد. والاصغاء لا يكون فقط بالكلام، بل بكلّ ما يصدر عن الآخر إن بالجسد أو بالصمت… يفرض الاصغاء شراكة كليّة في الأحاسيس والأهداف، وشعور بلذّة اللقاء، بعيدًا عن أيّ انزعاج أو حرج. الاصغاء الجيّد ليس وليد “صدفة” بل يتطلّب المعرفة والإدراك لا سيّما الإرادة الطيّبة. وتلاقي الأجساد لا يعني بالضرورة تلاقي الأفكار وتناضح الاستعداد للتواصل. إنّ السَّمع غير الاستماع. من هنا يتطلّب الاصغاء وجود إثنين: متكلّم ومُصغٍ. فعلى المتكلّم أن يتحلّى بالعفويّة والصراحة والصدق والبساطة. فإنّ نداء القلب يساعد الفكر على تقديم الدّعم المعنوي والجسدي، وكلّ زيف يقابلُ بزيفٍ مضاد أو برفضٍ قاطع. والأهم يبقى في صدق القول والصراحة من دون مواربة ومهما كلّف الأمر. وعلى المتكلّم أن يُشعر المُصغي بأنّه يتلهّف لمعرفة رأيه، وينتظر ردّة فعله. حذار من إشعار الآخر بالإرباك، إذ يصبح بذلك حقل تجارب لأنانيّة لا تطاق. الإصغاء يرفض صيغة الإملاء، لأنّ مَن يُملي إرشادات وآراء، لا يحتاج بالأصل لمَن يُصغي إليه. وانتظار ما سيقوله أو يفعله الآخر، يضحي إصغاءً مقابلاً. ويمكن للمُصغي الأوّل أن يُبدي رأيه أو يلزم الصمت أو يتواصل مع المُصغي الثاني بغير كلام: من خلال حركات الجسد كأن يقوم بحركة معيّنة، أو إيماء ما، أو أن يكون في وضعيّة جسديّة معبّرة، أو حتى نظرة، أو ابتسامة مشجّعة، أو معانقة خلاّبة. إنّ التمتّع بأخلاقية مميّزة يتقبّل بطبيعية أيّ ردّة فعل من دون الخوض في التفسيرات والتأويلات أو حتى الاتهامات، لأنّ هذا الأسلوب هو الأنجع في القضاء على أدنى ذرّة تواصل إصغائيّ. لا تليق الأقنعة إلاّ بالحفلات المقنّعة، والتي تهدف بالأصل إلى تمضية الوقت والتسلية لفترة معيّنة. أمّا الزواج الجدّي، فهو ليس حلبة مصارعة أو مسرحية آنية، بل هو كشف للذات على ما هي عليه، لأنّ المسيرة طويلة ولا تحتمل الزّيف أو التصنّع.
إنّ الثرثرة سهلة ولا تتطلّب ذكاءً خارقًا فالطفل يثرثر، والكهل يثرثر، والجاهل لا يضبط لسانه، والفارغ لا يأنس إلاّ بالكلام الذي لا يُجدي نفعًا… أمّا الصمت البنّاء والواعي، فينمّ عن الذكاء لأنّه يُفسح المجال في التعبير للآخر. فالإصغاء يُلزم بضبط اللسان والقدرة على إشعار المتكلّم بأهميّته، ممّا يُعطي للمُصغي دورًا فاعلاً في عملية الحوار الإيجابي والمُجدي. والإصغاء يتطلّب حضورًا إنسانيًّا مميّزًا، وترابطًا علائقيًّا فريدًا، وهو ضرورة نفسيّة وعلاجيّة للأزمات اليوميّة والملحّة. فالمُصغي يُريح المتكلّم، إذ يجعله أكثر صلابة أمام المحن لأنّه قرّر مواجهتها بمشاركة الآخر. تهون المسائل ويصبح العبء خفيفًا، حينما نفتح قلبنا لمَن نثق بهم. وإن كان الحبّ دعامة الزواج الأولى، فالثقة ضرورة لا غنى عنها كي تستمر الحياة المشتركة.
خاتمة
تبقى الإستقلاليّة الحياتيّة والفكريّة ضرورة حيويّة للإستمراريّة الثنائية. فعلى الشريك أن يعيش تاركًا في الوقت عينه فسحة للآخر كي يعيش بدوره. الاختلاف لا يعني الخلاف بل الاغناء المتبادل. ولنتذكّر أنّ لصعوبات الحوار ثلاث ركائز: عدم الاتّصال، خطر الصمت أو الاتّصال المزيّف.
لغات الحبّ متعدّدة ومتنوّعة: كلمات قيّمة، خدمات متنوّعة، هدايا وأوقات ذات قيمة أضف إليها اللقاءات العاطفيّة والجسديّة… هذا كلّه يجب أن يؤدّي إلى انسجام وتناغم على جميع الصّعد: روحيّ، فكريّ، أخلاقيّ، اجتماعيّ، ثقافيّ وعاطفيّ…
يتأجّج الحبّ المبنيّ على الحوار والتواصل بين الثنائيّ يومًا بعد يوم ويُسهم في بناء عائلة حيث الشعور بالحبّ والأمان والتقدير والحماية… من هنا نحن بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى بناء الثقة وبثّ الأمل في قلوب وحياة الرجال والنساء الذين يسعون لتحقيق نجاحات في مسيرتهم الزوجيّة، فيشهدون بذلك بأمانة لسرّ الزواج والعائلة. وهذا يفرض على أعضاء الكنيسة والمجتمع مرافقة كلّ مَن يتعثّر في مسيرته الزوجيّة، والالتقاء بهم والسير معهم، على ضوء تعاليم المسيح والكنيسة. أخيرًا نؤكّد بأنّ الحبّ المبنيّ على التضحية يقود الرجل والمرأة بعيدًا عن الفردية والتفرد والعزلة والانعزال، فالحياة الثنائية تتطلب الكثير من التضحيات والتنازلات المتبادلة، ونجاحها يقرّب بين الخطّين المتوازيين ليتقاطعا في أروع انسجام ثنائي. بناءً عليه يجب التربية على الحبّ والعمل على تنشئة العائلات على أساس الحبّ وبهدفه أيضًا. يبقى أن نقول أنّه لا بدّ لنا من إنجاح الحياة المشتركة، التي تفوق بأهميّتها فكرة النجاح في الحياة.
الأب الدكتور نجيب بعقليني
أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة