قصة المعركة الرمزية، التي واجه فيها أدميرال فرنسي، صيف 1781، الأسطول الإنكليزي قبالة سواحل فيرجينيا، وفتحت الطريق لاستقلال أميركا.
ربما أن الدولة الأقوى في العالم ما كانت لتنشأ لولا مساعدة البحرية الفرنسية، التي انتصرت عام 1781 على إنكلترا في معركة حاسمة.
صيف 1781، في البحر الكاريبي. كان الأميرال دي غراس، قائد أسطول Ville-de-Paris راسيًا في سانتو دومينغو، وعلى أهبة الإستعداد للإبحار باتجاه فرنسا. مهمته مواكبة قافلة قوامها 160 سفينة تجارية محملة بالسكر والتوابل والكاكاو وشجر النيلة. الأسطول يتناسب مع الحمولة التي يتعين عليه حمايتها: 24 بارجة من الأقوى في العالم، بالإضافة إلى فرقاطات وطرّادات. في ذلك الوقت، كانت البحرية الفرنسية أقوى من أي وقت مضى. ومع اعتلاء العرش بعد سلسلة من الملوك غير الآبهين كثيرًا بأمور البحر، أبدى لويس السادس عشر شغفًا حقيقيًا بالبحرية. خصّ الملك فرنسا ببرنامج سخي لبناء السفن؛ فمن 1774 إلى 1778، راحت أحواض بناء السفن تعمل بكامل طاقتها كي يكون بتصرف دي غراس مثل هذا الأسطول.
كانت مهمته على جانب كبير من الخطورة. ذلك أن القوى العظمى الثلاث في العالم كانت في حالة حرب منذ ما يقرب الأربع سنوات. من جهة، إنحازت فرنسا وإسبانيا 1778 الى قضية المتمردين الأميركيين؛ من جهة أخرى، بريطانيا العظمى المصممة على عدم السماح لمستعمراتها في أميركا الشمالية بنيل استقلالها. هذا الصراع العالمي السابق لأوانه يجعل البحار أخطر مكان على وجه الأرض. لم يكن أسطول الأميرال دي غراس مبالغًا فيه لحماية البضائع الثمينة. لكن مكالمة من أميركا ستدفعه لتغيير خططه.
لقد طلب منه الكونت دي روشامبو، قائد القوة العسكرية الفرنسية التي جاءت لمساعدة المتمردين الأميركيين، إرسال قوات الى مسافة 600 كيلومتر جنوبي نيويورك، عند مصب نهر تشيسابيك. على أطراف هذا الخليج العظيم، الذي يصب فيه حوالي خمسين نهراً، تقع يوركتاون، وهي بلدة كبيرة في فيرجينيا حيث يرابط حوالي 8000 جندي إنكليزي، أي ما يعادل ثلث القوات البريطانية الموجودة على الأراضي الأميركية. وكان روشامبو مصممًا على توجيه ضربة قاصمة اليهم، لكنه يحتاج إلى تعزيزات.
طريق برمودا
عهِدت فرساي الى دي غراس صلاحيات واسعة في اتخاذ القرار. لم يكن لويس السادس عشر يبالي كثيرًا باستقلال أميركا: همه الوحيد في هذا الصراع كان هزيمة الإنكليز. لقد أراد الملك الانتقام من معاهدة باريس المهينة التي أجبرت فرنسا 1763 على التخلي عن مستعمرات مهمة للبريطانيين. في 3 آب 1781، غادر الأسطول الفرنسي سانتو دومينغو بعد أن أخذ معه أكثر من 3000 جندي. عندما علم زعيم المتمردين، الجنرال جورج واشنطن، أن الأميرال الفرنسي كان يبحر باتجاه تشيسابيك ويوركتاون، قرر التوجه بَرًّا إلى هناك أيضًا، في سير حثيث، وذلك لضم قواته إلى القوات الفرنسية. المشكلة هي أنه لم يكن الوحيد الذي علم بمناورة دي غراس. ففي جزر الأنتيل، تناهى الخبر أيضًا إلى مسمع الأدميرال الإنكليزي هود، الذي أطلق على الفور سفنه لمطاردة الأسطول الفرنسي.
في 8 آب، اقتحم الأسطول البريطاني خليج تشيسابيك. وذهل بأنه مهجور. لا شراع فرنسي في متناول النظر! هود يفكّر منطقيا: ” دي غراس أقلع من جزر الأنتيل قبلي. وعليه يجب أن يكون دائمًا أمامي، راجعا الى نيويورك”. لذلك واصل الأدميرال الإنكليزي مطاردته شمالًا على طول الساحل.
في الواقع، دي غراس كان وراءه. ذلك أن الأدميرال لم يتبع المسار المعتاد الذي يلتف حول الأنتيل من ناحية الشمال الشرقي. بينما اتخذ الأسطول الفرنسي الخيار الأكثر جرأة – والأكثر خطورة – متجها نحو الغرب، على طول السواحل، متحديا الرياح والأعماق المرتفعة الصعبة لـ “مثلث الشيطان” … الذي تغير اسمه منذ ذلك الحين إلى مثلث برمودا. وهو مسلك غير معروف ولم يتم رسمه على الخرائط أبدًا، كثير الشعاب والتيارات المتضادّة. مجازفة، ولكن يُعتدّ بها: فقد وصل أسطول دي غراس إلى مدخل خليج تشيسابيك بعد أربعة أيام من مغادرة الأسطول الإنكليزي له. وبات الممر سالكًا.
قام الأسطول الفرنسي بمحاصرة المصب وباشر في إنزال التعزيزات. فوجد الجنرال الإنكليزي كورنوالِس نفسه محاصرًا في يوركتاون. في هذا البلد الشاسع، الحديث العهد ليكون له طرق حقيقية، لا يمكن أن تصل إليه الإمدادات إلا عن طريق البحر، حيث يقوم الفرنسيون الآن بسد الممر. لهذا، لم يدّع دي غراس النصر على متن بارجته الأميرال فيل دي باري. فهو يعلم أن أسطولا فرنسيًا آخر، بقيادة الكونت بارال، قد أبحر من نيوبورت نزولا على طول الساحل باتجاه تشيسابيك. بارال هذا يخشى الوقوع في مواجهة مع أسطول هود الذي يتجه عائداً إلى نيويورك. والحال أن بارال أقل عدة وعددا. دي غراس يدرك أنه في حال نشوب قتال، فإن الأسطول بكامله سيقع في أيدي البريطانيين. ما العمل؟ التوجه شمالاً لملاقاة بارال من أجل مؤازرته في معركة محتملة؟ معنى ذلك إخلاء الطريق في خليج تشيسابيك لإنزال إنكليزي الهدف منه إغاثة يوركتاون. البقاء في تشيسابيك؟ أي المجازفة بفقدان أسطول الكونت دي بارال. على مدى عشرة ايام راح دي غراس، الذي أنهكه القلق، يتساءل عما إذا كان عليه أن يطارد الإنكليز. وجاءه الرد بأنهم هم الذين سيأتون إليه.
في صباح الخامس من أيلول 1781، كانت أشرعة العدو تلوح في عُرض كيب تشارلز عند مدخل خليج تشيسابيك. كان أسطول هود، الذي تعزز بأسطول الأدميرال غريفز، هو الذي نزل على وجه السرعة على طول الساحل إستجابة للنداءات اليائسة التي أطلقها الجنرال كورنواليس، الذي ظلّ عالقًا في يوركتاون. إضطرب دي غراس فجأة. فما كان منه إلاّ أن ترك أربع سفن للحراسة في الخليج، ودفع ببقية أسطوله لمنازلة السفن الإنكليزية. ولم يكن على يقين حتى اللحظة أن النصر الذي يوشك على تحقيقه سيفتح الطريق قطعيًّا لاستقلال أميركا.
عندما يتعلق الأمر بالمعارك البحرية، فإن تشيسابيك تعتبر أقل وقعًا بكثير من التبعات التي ستتركها على مصير العالم. لقد وجد الأسطول الفرنسي نفسه أمام أسطول غير مِقدام إلى حد كبير، وفجأة غير متأهب لنجدة يوركتاون المحاصرة. يروي شاهد من ذلك الزمن، هو القبطان أندريه أمبلار، حالة التشتت كالتالي: “يطارد دي غراس الأسطول الإنكليزي الذي يتوارى. كانت سفينته الشراعية أفضل من سفينتنا، ولم يستطع إدراكه إلاّ بواسطة اثنتي عشرة قطعة من بوارجنا المبطنة بالنحاس، التي كانت تشحن مؤخرتها بقوة لدرجة أن البارجة Le Terribleالمزودة ب 74 مدفعًا قد غرقت”.
“أسلحة فرنسا حررت أميركا”
لم يستمر التقاصف بالمدفعية سوى ساعات قليلة. ومع ذلك كان أمامه الوقت لإلحاق أضرار ببعض السفن على كلا الجانبين، ما أسفر عن إصابة حوالي 340 بين قتيل وجريح. في المساء، أوقف البريطانيون القتال، واضطرّوا إلى الفرار أكثر من كونهم هزموا على يد الأسطول الفرنسي الذي يفوق عددا بقليل. راح دي غراس يطاردهم في اليَمّ، دون أن ينجح في إدراكهم، ثم يقلع عن ذلك ويعود إلى تشيسابيك. هذا النقص في المثابرة سيكلف الأميرال غالياً. فبعد ذلك بعامين، سيتمكن هذا الأسطول الإنكليزي نفسه، الذي أعيد إصلاحه وتعزيزه، من إلحاق هزيمة ماحقة به في لي سانت، حيث سيتم أسرُه. لكن في الوقت الحالي، فإن نصرًا كبيرا بدأ يرتسم.
بالعودة إلى الخليج، في 11 أيلول 1781، فوجئ دي غراس بوجود أسطول الكونت دي بارال الذي كان قد وصل إلى هناك في اليوم السابق دون أن يلتقي الإنكليز. مع هذا التعزيز غير المنتظر، أصبحت القوات غير متساوية بالمرة ومنعت البريطانيين من القيام بمحاولة إنزال أخرى على سواحل فرجينيا. على الأرض، إلتقت قوات روشامبو وواشنطن رجال دي غراس. ومن جهته انضم الماركيز دي لافاييت، الذي وصل مع رجاله، إلى القوات المتحالفة. وبدأ حصار يوركتاون.
من الخليج، راحت السفن الفرنسية تقصف المدينة بلا هوادة. أمّامن جانبها المدفعية الأرضية فقد أذاقت الإنكليز للمرة الأولى طعم القوة النارية لمدفع غريبوفال الجديد، الذي سيكون صانع جميع انتصارات الثورة والإمبراطورية. في 19 تشرين أول، استسلمت يوركتاون. وعلى طرف إحدى الغابات القريبة من المدينة، أقامت القوات الفرنكو أميركية سياجا لمراقبة المهزومين. لم يتحمل كورنواليس مثل هذا الإذلال، فتم استبداله بالجنرال أوهارا. كان واشنطن ولافاييت وروشامبو جنبًا إلى جنب ينظرون اليه وهو يتقدم. فما كان منه إلاّ أن مدّ سيفه، رمزًا للخضوع، إلى الكونت دي روشامبو، الذي رفض تسلّمه تاركًا الأسبقية بلطف لواشنطن. بعد قرن ونصف أكد الجنرال ديغول: “أسلحة فرنسا حررت أميركا”.
في 14 شباط 1778، كان الأسطول الفرنسي بالفعل هو الأول في العالم الذي يعترف رسميًا بالعَلم الأميركي من خلال تقديم التحية إلى جنود جون بول جونز، في خليج كويبيرون. بعد ثلاث سنوات، كان البحارة الفرنسيون هم أيضا من فتحوا طريق الحرية للولايات المتحدة الأميركية المقبلة. إذ ان سقوط يوركتاون، الذي سجّل أول انتصار كبير للمتمردين بعد ساراتوغا، جعل منذ الآن استقلال المستعمرات البريطانية الثلاثة عشر في أميركا الشمالية أمرًا لا مفر منه. وقد كان جورج واشنطن على حق، بعد أيام قليلة من انتصار يوركتاون، عندما حيّا بشخص الأميرال دي غراس “حكَم الحرب”. فهو بالنسبة للفرنسيين الشخص الذي نجح، ولو لبضع سنوات فقط، في تجريد البريطانيين للمرة الأولى من تفوقهم البحري المتغطرس.