إنّ إحدى موضوعات نشيد فيلبّي عن المسيح في الاصحاح 2 ، هو ما نسمّيه ” تجرّد ” المسيح من ذاته ، أي أن يكون قد ” أفرغ ” نفسَه ليتخذ الحالة البشريّة ويلتزم بها .
نعرفُ أن مسألة التجرّد هذه خضعت لرأي ٍ مغاير ٍ في التفسير الحديث ، كون بعض أتباع المذهب العقائديّ (مثل كارل بارث ) قد دحضوا الفكرة . فإنه لمشوّق أن نرى كيف نظرَ مفسّرو القرون الوسطى ، من جهتهم ، إليها . فنلاحظ بادئ ذي بدء أنّ الترجمة اللاتينيّة التي تــُعتبر ، وحدها ، مرجعًا في مغرب القرون الو سطى (الفولغاتا ) ، قد نقلت الفعل اليونانيّ من ” تجرّد ” بطريقة محدّدة ؛ والفعل اللاتينيّ من ” فرغ ، أفرغ ” مؤلّف من صفة تعني ” فارغ ، أو باطل ” . إنّ أحد المفسّرين الرئيسيّينفي العصور الوسطى ، هيمون الأوكسيريّ (ت 865 -866) ، يُكبّ على دراسة لدلالة الكلمة ، ويقدّم لائحة مقارنات تساعدنا في فهم الموضوع بوجه ٍ أوضح .
هيمون الأوكسيريّ ، في تفسير الرسالة إلى أهل فيلبي
” تجرّد من ذاته ” ، أي تواضع ، وبطريقة ٍ ما ، تقلّص وخفّض نفسه . وهذا ما يحصل عندما يكونُ شيءٌ كبير ، ومستحيل المنال، منحصرًا في شكل ٍ صغير . على سبيل المثال ، عندما يريدُ فنّانٌ أن يجمع ، في لوحة ٍ أو بالشمع ، جهاز الكون بكلّ ما في العالم من بشر ، وحيوانات ، وطيور ، وجبال ، وأشجار ، ومدن ، وأنهار ، وسمك ، في صورة ٍ مقتصَرة جدّا ، فهذا يسمّى تجرّدا . كذلك ، فإنّ كلمة الآب ، وهو في كل مكان بألوهته غير المرئيّة ، عندما نوى أن يظهر مرئيّا في صورة الإنسان المحدودة ، قد تجرّد من ذاته ، وتواضع ، أو ، بطريقة ما ، تقلّص ، إن جاز التعبير . بالفعل ، إنه فوق كلّ شيء ، وخارج كل شيء ، وكلّ ما في الوجود هو فيه . نذكر مثلا القديس أوغسطينوس الذي أجرى مقارنة ً ملائمة بين الاسفنجة والبحر ، بحيث إن الإسفنجة التي وضعت في وسط البحر هي العالم ، والبحر الألوهة .
نجدُ هذه المقارنة في إعترافات القديس أوغسطينوس ( الفصل السابع 17) ، ولكنّ الصورة الأولى هي التي تعبّر عن التجرّد من الذات : الألوهة ” تصغر ” لتتخذ حجم الإنسان . وتكمن المشكلة في أن نعرفَ إن كانت هذه الحركة تقتضي خسارة ما بشكل الألوهة . أمام كتـــــّاب القرون الوسطى ، مثل توما الأكوينيّ ، فقالوا إنّ الألوهة لم تــــُفرَغ ؛ وحدّد برونو لو شارترو (حوالي 1030 – 1101) ، كالكثير غيره ، أن النور claritatem ، بعبارة أخرى انقشاع الالوهة أو هيئتها ، هو الذي أفرغَ . ويُعبر عن هذه الفكرة بشكل ٍ مدهش للغاية ، ولكن صائب على ما يبدو ، في تفسيرٍ مجهول الكاتب من القرن الثاني عشر ، ينتمي إلى مدرسة بيار أبيلار ، ومسمّى بـــ ” تفسير كامبريدج ” … لنرى الآن هذا التفسير :
تفسير كامبريدج في الرسالة إلى أهل فيلبّي
” ولكنه تجرّد من ذاته . لقد كان في صورة الله ، إ لا أنه ، من أجلنا ، تجرّد من ذاته ، أي أفرغ نفسه ، ليس بخسارته ما كان يملكه سابقا ، بل بإلتزامه بما لم يكن عليه في الأساس . وإنّ هذا التجرّد لم يكن إلاّ حجبًا لذاته في رذيلة جسدنا البشريّ ، حيث اختبأ مُسكِّنا ضياء عظمته . وهذا هو ” المزيج ” الذي يختبره حزقيال في وسط النار ( حز 1 : 4) . أمّا المزيجُ المعنيّ Electrum فيعني الخليط الطبيعيّ من الذهب والفضة . بالفعل ، غالبًا ما تختلط معادنُ كالرصاص والقصدير ، لصناعة الصنوج ، لكي ترنّ بشكل أفضل ؛ كما أنّ النقود تُصنَع من مزيج المعادن بدورها . وهي حال ” الإلكتروم ” المصنوع من مزيج الذهب والفضّة ، حيث الذهب ، وهو معدنٌ أشدّ لمعانا ، له طبيعةٌ أعلى مستوى وهو غير قابل للفساد على الإطلاق ، يتمّ تعديله من خلال مزجه بمعدن ٍأدنى منه قوّة ، الفضّة التي ، مع أن لها طبيعة ادنى من طبيعة الذهب ، يمنحُها الذهبُ هذا قيمة ً . والإلكتروم هو المسيح ، ذو الطبيعتين ، حيث الذهب الذي له طبيعة غير قابلة للفساد ، أي الألوهة اللامتناهية ، قد اعتدلَ ومنحَ البشريّة قيمة ً ، وهي في الأساس ، وبشكل ٍ ملحوظ ، ذات قيمة ٍ أدنى . بالفعل ، لو كانت الألوهة تظهر أمامنا بالإشعاع نفسه الذي تظهر به أمام الملائكة ، لأحرقتنا بدل أن تشعّ علينا أو تُحسّسنا ، على حد قول القديس غريغوريوس . فهكذا قد أتت إلينا هذه الألوهة مُرتدية ً حلّتها ، أي تواضعها ، وبالرغم من أنها ، في طبيعتها ، كانت غير مرئيّة ، قدمت ذاتها إلينا مرئيّة بطريقة ٍ معيّنة ، معدِّلة ً بل خافية ً عظمة َ نورها ، لكي لا تدمّرنا بدل أنت تنفعنا ، نحن مَن ، في هذه الحياة ، لم نكن لنتمكّن من النظر إلى هذا النور وإلى السطوع الفائق ، إذ قال الربّ الإله نفسه : ” لا يراني الإنسان ويحيا ” (خر 32 : 20 ) .
Zenit