إنّ لكتّاب القرون الوسطى مفهومًا خاصّا عن مسألة التجرد من الذات ؛ بحيث إنه ، في رأيهم ، ليس تلاشيا تامّا وبسيطًا ، فالجوهر الإلهي لا يختفي بالكامل ، بل هو يتحجبُ ينخسف .
إن الآراء في موضوع إفراغ الذات هذا تتخطّى الدراسة المجرّدة لما نسمّيه ” تجرّدا ” ، وهو مصطلح لم يستخدمه ، طبعًا ، مفسّرو القرون الوسطى . فهم يستشفّون ، في كلّ الجمل المعبّرة عن التجسد ، والولادة ، حتى الآلام ، تجلّيا لذلك التواضع : يلتزم المسيح بالحالة البشريّة بكلّ نقاط ضعفها ، متخذا ، كما يقول التلميذ في إنجيله ، ” صورة العبد ” . ويلي التفسير الرائع والمؤثر الذي يقدّمه نصّ هوغ دو سان شير؛ يُظهر فيه مدى الإستفادة من النصوص الكتابيّة المتنوّعة ، وفي الوقت نفسه ، تشبيهٌ يثير العجب للمسيح بالهِجرِس (وهو جنسٌ من القرود) . أمّا الصورة الأخرى التي تُظهر المسيح طيّبا فأوفرَ إستعمالا .
تفسير هوغ دي سان شير
” متخذا صورة العبد ” . هو ، ربّ الكون ، ” قد افتقرَ لأجلنا وهو الغني ” (2 كور8 : 9) :أنا رجلٌ مسكينٌ حقير ( 1 صمو 18 :23) ، ” إني بائسٌق مسكين ” ( مز 85) ، أنا ، ” الأول والآخر ” (رؤ 1 : 17) : الأوّل في الكرامة ، والآخر في العبوديّة ، لانه اتخذ صورة العبد – وإذ كانت عبوديّته أشدّ إيلامًا من سواها ومُحتقرة ، إلاّ أنها أوفر إثمارًا على الإطلاق : ” أنا درّجتُ أفرائيمَ وحملتهم على ذراعيّ لكنهم لم يعلموا أني اهتممتُ بهم ” (هوشع 11 : 3 ) . بالفعل ، وكما تفعلُ الحاضنة ، انحنى المسيح متواضعِا نافعا ليغسلَ طفله ويُزيل عنه الوسخ ؛ جلسَ في الرماد وأطعمه حليبه … لقد خدمَنا وهو يحملنا بين ذراعيه ،كما ورد في سفر هوشع ” كنتُ لهم كمن يرفعُ الرضيعَ إلى وجنتيه ” . ولكن إن ما هو ثقيل يُحمل على الكتفين ؛ فالقِردة ، على سبيل المثال ، تحمل بين ذراعيها صغيرها المفضّل ، وأما الآخر فتحمله على كتفيها . والمسيح قد حملنا بصبر على كتفَيه وكأننا عبءٌ ثقيل … إلا أنه ، وقت آلامه ، قال : ” سوف أحملهم بين ذراعيّ ” . وبالفعل ، إذ أفاضَ علينا رحمته ليقبّلنا وكأننا أبناؤه الأحبّاء، قد مدّ ذراعه على الصليبْ …. ” وما عرفوا أنني كنت اعتني بهم ” : لقد اعتنيتُ بهم ولم يعرفوا . إنّ هذا الطبيب كرّس نفسه لخدمة المرضى ، بحيث أصبح مرضُه خلاصًا لهم ، وجراحه دواءً ، وموته حياة ً : ” طُعِنَ بسبب معاصينا ” (اش 53 : 5 ) ، أي ليُزيلها .
تكمنُ الصعوبة ، بشكل جليّ ، في إظهار أنّ التجسّد لا يعني تلاشي الألوهة : فالمسيح ، وليلتزم ، أو ليتّخذ ، حالة الإنسان ، يتسلّم ، إن أمكننا القول ، تجرّد الحالة البشريّة ؛ وهذا التجرّد ليس قيمة ً سلبيّة ، بل هو بالحريّ نوعٌ من الشُغور . بحيث يجعل المسيح نفسه شاغرًا جاهزا ، منفتحا لآلام الإنسان التي حملها حتى الصليب . وهذا ما يبيّنه توما الأكوينيّ الآن .
تفسير القديس توما الأكوينيّ ، لرسالة فيلبي 2 : 7
” لقد تجرّد من ذاته ، متخذا صورة العبد “. ولكن بما أنه كان يملكُ كليّة الألوهة ، هل تجرّد منها إذا ؟ مطلقـــــًا ، وهذا لأنه بقي على ما كان عليه والتزمَ بما لم يكن عليه . ومع ذلك ، عليا أن نفهمَ الأمر بمعنى أن المسيح التزمَ بما لم يكن عليه ، وليس بمعنى أنه التزمَ بما كان عليه . فهو ، تماما كما نزل من السماء من غير أن يتركها أساسا ، مُباشِرا نمط حياة ٍ جديدًا على الأرض ، هكذا تجرّد من ذاته من غير أن يضعَ جانبًا طبيعته الإلهية ، ولكن بإلتزامه الطبيعة البشريّة . وقد أكّد الرسول في الإنجيل قائلا : ” تجرّد من ذاته ” . لأن التجرّد يناقض الكليّة ، إلا أنّ الطبيعة الإلهيّة هي كليّة مطلقة ، إذ إنّ كامل عظمة برّه يكمنُ فيها : ” أمرّ بكل حُسني أمامَك ” (خروج 33 : 19 ) . أمّا الطبيعة البشريّة فهي ، كالنفس ، لا تحتوي على الكليّة ، ولكنها تستطيعُ أن تحصل عليها . فالطبيعة البشريّة إذن فارغة ً مجرّدة . فقد قال الرسول ” تجرّد من ذاته ” ، لانه التزمَ الطبيعة البشريّة .
Zenit