القضية ليست أبدًا : تناقض وتحريف وكذب ! ، بل إنّ هناكَ أمرًا يجبُ أن تعرفهُ أوّلا : وهو أنّ الله لا يلعبُ معنا ، وهو أيضا ، لا يكذبُ علينا عندما ” تجسّد وصارَ إنسانا ” ، وهذا موضوعٌ آخر . فالله لا يمكنُ أن يكونَ إنسانا ويبقى في مقام الألوهيّة الساطعة ، والمعرفة الكليّة الكاملة على الارض ، فهذا مناف ٍ للإنسانيّة الحقيقيّة ( سرّ التخلّي والبذل ) .. فصارَ إنسانا بكلّ ما تحملُ الكلمة من معنىً : يولد ، يأكل ، يجوع ، يتعب ، يتألم ، ويموت … إنه إنسان إلى الجذر (إن أردنا القول) . فلا مشكلة للألوهيّة في تمامها ، ولا مشكلة في الإنسانيّة في تمامها ؛ لا بل إنّ الإنسانيّة تكتملُ بالإلوهيّة بأبهى صورة .
بالمختصر : كلّ ما في الأمر ، أنّ ” الإبن ” بما أنّه كليّا من ” الآب ” ، فهو ليس لـ ” ذاته ” ، بل لأجل الآخرين ، إنه كليّا للآب وللعالم . بإستسلامه التامّ للآب ، تاركا له أن يقرّر متى ينبغي لابن الإنسان أن يدين المسكونة . موضوع عدم المعرفة هذا للإبن ، بخصوص اليوم والساعة ، هو أنّ يسوع يريد منّا : السهر واليقظة وعدم النوم واللامبالاة .
كلمة ” إلاّ ” في تعبير ( إلا الاب ) ، لا تنفي شيئا عن أحد الأقانيم ، إلا من حيث التضادّ الإضافيّ بين الأقانيم ، كالأبوّة والبنوّة والبثق والإنبثاق . والحالُ ، إنّ العلم شيء مطلق وصفة جوهريّة تعمّ الأقانيم الثلاثة : إذن ، الإبن يعلمُ ذلك اليوم وتلك الساعة . وأمّا قوله : إنه لا يعلمه ، فيُفهَم أنه لا يعلمه بحسب ” الطبيعة البشريّة الإنسانيّة ” ، لا أنه يجهله بما أنه إنسان أيضا ، إذ منذ الدقيقة الآولى من الحَبل به ، أفيض على نفسه كلّ العلم ، كما قال الرسول : المكنونة فيه جميع كنوز الحكمة والعلم ” فكان يعلم بما أنه إنسان أيضا كلّ ما يعرض في الزمان والتالي ساعة الدينونة . أمّا قوله إنه ” لا يعلمها “، معناهُ أنه لا يعلمُ ذلك اليوم وتلك الساعة ليُشهره على الناس ويُبلغه اليهم .
لإنه يقول في يوحنّا : لإني أعلمتكم بكلّ ما سمعته من أبي …”. فلماذا يأخذ المعترض نصوصًا من الإنجيل تنفي ألوهيّة يسوع ، ويترك النصوص الآخرى التي تؤكّدها ؟! . إذن، يسوعُ لا يعلمُ ، لإنه لا يمكنُ لله الكذبَ علينا عندما يصير إنسانا ، فيسوع ليس ” سوبر مان ” أو ” الرجل الخارق ” ، الذي جاءَ من السماء ! بل إنه ” صار إنسانا تواضع وأصبح شبيهًا بنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة .
يقول القدّيس هيلاريون أسقف بواتييه : شاء الله أن يُبقي موعد النهاية غير محدّد ، وفي هذا أعطانا وقتا طويلا للتوبة ، وتركنا حيارى أمام المجهول ، لئلّا يُعطي أيّ واحد منّا فكرة عن يوم معيّن . فكما حدث في أيام الطوفان ، هكذا يظهر ذلك اليوم العظيم على حين غرّة وسطَ مجرى حياتنا الطبيعيّة ونشاطاتنا ومعاناتنا .. وأخيرًا نقول : إنّ إيماننا المتعقّل يقول ، إن وعي يسوع الأول التلقائيّ الذاتيّ ، في أثناء حياته ، قد تموضَع تموضعًا تدريجيّا ، وتحقّق في الزمن ، وتمّ في الواقع العينيّ عن طريق الأشخاص والظروف ، ولربّما في صلاته أيضا عندما كان يعتزل ليصلّي أباه . وهذا ما قاله أيضا بصورة جميلة جدّا القديس إيريناوس أسقف ليون : إنّ يسوع ” تكيّف”” ليكون إنسانا ، ولا ” أصبح ” فقط ” إنسانا . وإن كنّا لا نعترفُ بذلك ، فنحنُ لا محالة سنقع ضحيّة ” الهرطقة الظاهريّة ”
بقلم عدي توما / زينيت